كل الدلائل تشير إلى أن العام 2010 سيكون أكثر سخونة من العام 2009. فالعالم في السنة الماضية عاش فترة من الاستقرار النسبي وتأمل خيرا من الإدارة الأميركية الجديدة التي طردت «تيار المحافظين الجدد» من البيت الأبيض بغالبية نسبية من الأصوات وفي ظل فضاء دولي مؤيد لهذه الخطوة السياسية.
الخطوة كانت جيدة في مطلع السنة ولكنها أخذت تنكشف بعد ظهور ثغرات ومطبات عطلت احتمالات التطور ومنعت الرئيس باراك أوباما من الوفاء بوعوده وتغيير ذاك النمط السلبي الذي يتحكم بعلاقات الولايات المتحدة الدولية.
السنة الماضية كانت فاشلة دوليا ولم تنجح في إحراز تقدم مقبول في ملف من الملفات. حتى في القضايا الداخلية فشل أوباما في تحقيق إنجاز مهم على صعيد المطالب الاجتماعية والاقتصادية باستثناء الموضوع الصحي الذي نجح في تمريره بعد تعديلات جذرية على خطته الأصلية.
فشل أوباما في سياسته الدولية أعطى ذريعة لترجيح نمو مشاعر تؤكد أن العام المقبل سيكون أكثر سخونة من العام الماضي. فالاحتمال السلبي أصبح أقوى من السابق في اعتبار أن السنة الأولى من عهد أوباما أخذت تمضي من دون أن ينجح في التوصل إلى صوغ استراتيجية مخالفة لتلك التي اعتمدها سلفه جورج بوش. وبما أن السنة الأولى تعتبر عادة مدة كافية للحكم على سياسة الرئيس الأميركي لكونها تشكل مساحة زمنية للاختبار يمكن الاعتماد عليها لتأسيس وجهة نظر نقدية للمراجعة وإعادة القراءة.
الفترة التجريبية أظهرت ميدانيا تلك المفارقة العينية بين الخطاب السياسي العام والمجرد وبين الوقائع الجارية على الأرض. فالكلام النظري الذي أفاض أوباما في شرحه وتطويله انكشف عن ضعف عملي حين قرر الانتقال من الخطاب إلى الواقع. وبسبب ذلك التفاوت بين الطموح الرئاسي وممانعة المؤسسات الثابتة التي تتحكم بمفاصل القرار ومصادره اضطر أوباما للتراجع عن الكثير من الوعود وتدوير بعض القضايا وتجنب أخرى والتهرب من مواجهة استحقاقات مشكلات عويصة على رأسها المسألة الفلسطينية.
إعادة النظر التي لجأ إليها أوباما اضطرارا أكدت صعوبة التغيير في الولايات المتحدة. فهذه الدولة الكبرى التي تأسست على دستور اتسم بالانفتاح والتسامح والمرونة أصبحت أسيرة مؤسسات صارمة في توجهاتها وغير قادرة على التخلص من جماعات الضغط (اللوبيات) ودورها في ترسيم حدود المصالح وتمييزها عن توجهات الرئيس وطموحاته الشخصية.
القرار الأميركي في نهاية التحليل لا يعود إلى الرجل الأول على رغم ما يمتلكه من صلاحيات فردية واستثنائية. فالقرار مشترك ولا يصدر إلا بعد أن يمر في محطات ومجموعة حلقات ضيقة تشرف على تعديله وتبويبه وترتيبه حتى يتناسب مع توازن المصالح في مؤسسات الدولة. وهذا ما حصل لخطاب أوباما وطموحاته في السنة التجريبية الأولى.
السنة كانت اختبارية في كل المقاييس. فأوباما الذي اخترق الحواجز وكسر الموانع وعدل تلك الصورة النمطية للرئيس الأميركي استطاع خلال مرحلة التنافس على المنصب أن يدفع المؤسسات إلى التراجع وتقبل فكرة أن يكون الرجل الأول في البيت الأبيض من خارج النادي التقليدي لاختيار الرؤساء.
هذا الانجاز التاريخي الذي حققه أوباما فاق كل التوقعات لأنه دشن مرحلة جديدة في نمطية العلاقة بين الرئيس والمؤسسة ما أعطى دفعة قوية للأمل وعزز تلك التوجهات التي كانت مقموعة أو مطرودة إلى هامش الزمن الأميركي.
نجاح أوباما في الرئاسة قد يكون الوحيد وربما الأخير في سلسلة من التوقعات المسموح بها. والنجاح هذا لا يعني أن الأمور الأخرى ستتطور بالاتجاه نفسه. فالمؤسسات التي فشلت في تعطيل وصول رئيس أسود إلى البيت الأبيض لاعتبارات وظروف خاصة وشديدة التعقيد تستطيع ان تمنع الرئيس من تطوير فرصته لاعتبارات وظروف لا تقل في خصوصياتها وتعقيداتها عن الأولى.
العوامل الأولى يمكن للمؤسسات تقبلها وتحمل نتائجها لأنها تتصل مباشرة بشخص الرئيس (لونه، جنسه، ديانته، ثقافته، خطابه السياسي) بينما العوامل الثانية يصعب على المؤسسات الثابتة (اللوبيات) تمريرها بسهولة لأنها تتصل بمصالح الدولة وموقعها وقوتها ودورها. فالدولة في هذا المعطى التاريخي تعتبر الأهم لأنها هي الطرف الثابت والضامن والمهيمن بينما الرئيس يتغير كل أربع أو ثماني سنوات.
الفارق بين صفات الرئيس وسمات الدولة يؤشر إلى تلك المفارقة العينية بين الكلام النظري العام والوقائع الجارية. فما هو مسموح به على مستوى اختيار الشارع (الجمهور الانتخابي ودافع الضرائب) للرئيس غير مسموح به على مستوى الدولة وإطاراتها الدستورية ومؤسساتها الثابتة.
هناك مسافة بين الرئيس والدولة. فالرئيس يحق له أن يخاطب جمهوره ويغدق الوعود ولكنه لا يستطيع أن ينقل الكلام من نطاقه المجرد إلى برامج ملموسة وخطوات ميدانية لأن المسألة تتجاوزه وتبدأ بالتعرض إلى الدولة ومؤسساتها.
التغيير الذي حققه أوباما منذ انتخابه لا يمكن تجاهله. فهو على الأقل نجح في اختراق ممنوعات وكسر تلك الصورة النمطية المقدسة للرئيس الأميركي. وهذه الخطوة بحد ذاتها كانت كافية ليدخل التاريخ من الباب العريض ويفوز بجائزة نوبل للسلام في لحظة لا يزال العالم يعيش فضاءات حروب لا تنقطع ورثها عن سلفه بوش. وأوباما الذي نال نصيبه من الترحيب من شعوب العالم وقادة أوروبا لم يحصل على ما حصل عليه إلا لهذا السبب وهو فوزه بالانتخابات وكسبه المقعد المخصص لفئة معينة من الألوان والجنسيات والأديان.
حقبة أوباما كما يبدو انتهت بعد فوزه بالرئاسة. فالفوز كان بداية النهاية وقد يكون المحطة الأخيرة في رحلته السياسية القصيرة إلا إذا نجح في كسر محرمات أخرى. وهذا الأمل غير مرجح في الأمد المنظور نظرا لتلك الاعتبارات التي تفصل بين الوعد (الطموح) والواقع (المؤسسات).
طبيعة المؤسسات الأميركية (أجهزة الدولة) أقل مرونة من الشارع الانتخابي وهي في تكوينها التاريخي وتوازنها الداخلي تتمتع بحصانة تقليدية تعتمد مجموعة آليات تمنع التعديل الكبير والتغيير السريع. وهذه القدرة الخاصة التي تمتاز بها مؤسسات الدولة تعطيها قوة نفوذ استثنائية للتحكم بمفاصل القرار وتطويعه وثم إدارته بالاتجاه الذي يخدم المصالح العليا.
مصالح الدولة العليا في الولايات المتحدة لا تنسجم بالضرورة مع خطاب الرئيس وطموحاته الشخصية وتطلعاته الكلامية. وهذا التفاوت بين النظرية والتطبيق يفسر تلك الأسباب الكامنة التي دفعت أوباما إلى التراجع وتدوير الزوايا والتهرب من مواجهة ملفات وتقبل وجهات نظر القيادة العسكرية (مؤسسات التصنيع الحربي) والتنازل عن الكثير من الوعود والأمنيات.
التوقعات التي رافقت انتخاب أوباما فاقت معدلها الطبيعي وتجاوزت مثاليا الحقائق الميدانية لذلك بدأت الدلائل ترجح أن تكون السنة المقبلة أكثر سخونة من الماضية. فالعام 2009 كان خطوة تجريبية امتحن خلالها أوباما حظه واختبر مدى قدرته على تحقيق اختراقات، بينما العام 2010 سيشهد خطوة انتقالية تدفعه من الأحلام النظرية إلى الواقع وما يتطلبه من تنازلات مؤلمة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2673 - الأربعاء 30 ديسمبر 2009م الموافق 13 محرم 1431هـ