افتَرَزَ محور الاعتدال (أو الاعتلال) العربي شئون القضية الفلسطينية ضد الجيرة الإيرانية صدا. وقد بدا الأمر وكأنه استعاضة مُتمددة في كل شيء من ضفاف الحكمة إلى مراتب الجهل، طالت حتى غوائر التباعد الإثني والمذهبي وإشعال تناقضاته كسبا لحربٍ خاسرة!
من قَبْل تحدثت عن دعم الجمهورية الإسلامية (السياسي، المادي الاقتصادي، الإعلامي والمعنوي) للقضية الفلسطينية بالرقم والوثيقة، دون أن أُشير إلى الدعم الثقافي ومستوى تشكيل الرأي العام. وهو باعتقادي المبنى الأتمّ للقضية.
لقد آثرت إفراد ما يكفي لهذا الموضوع لأن تأثيراته لم تعد آنية وبعمر الزمن؛ فهي تحاكي استراتيجية البناء السوسيولوجي للشعوب، وقلب ميزان التنشئة المهترأ لصالح تقويم تفكير الأجيال.
المناهج الدراسية
قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران، كانت مناهج التعليم تُغذي المسارات المُؤدّية إلى الرجوع نحو إيران «القديمة» والابتعاد عن الحيّز الإسلامي ومُجافاة اللغة العربية، وتظهير العرب على أنهم من الهَمَج الرعاع، ناقِصي حضارة، ومُتفننين في الإباحيّة.
فقد ذكر كتاب اللغة الفارسية لدور المُعلّمين للعام 1974 إبّان العهد الشاهنشاهي في أحد نصوصه التالي: «الملوكيّة الساسانية انقرضت على أيدي جماعة من أعراب الصحارى. وقد تحوّل النظم والعُمران والرفاه الإيراني إلى الفوضى والخراب وسلب الراحة. واستُبدِلَت أراضي فريدون وكيخسرو وشابور بمساكن الثعالب والنسور، وقد حَكَمَ ملاعبو الغربان والأشرار ورعاة الإبل وأَكَلَة اليرابيع على مواطنينا من أبناء كاوه ورستم وكودرز وجوينه».
بعد انتصار الثورة وتشكيل الإمام الخميني للمجلس الأعلى للثورة الثقافية ولجنة إعادة صياغة جميع الكتب الدراسية، بدأت سياسة الحكم الجديد في المواءمة ما بين القومية الإيرانية والدين الإسلامي ومدّ الجسور بالعالم العربي من خلال إبراز قضاياه وبالتحديد القضية الفلسطينية.
بل سعت المناهج الدراسية الإيرانية ما بعد الثورة إلى تكريس مادة اللغة العربية عبر نقل نصوص تتحدث عن ابن الهيثم وشعر أبي القاسم الشّابي ولاميّة ابن الوردي وذخائر الشريف الرضي والإمام الشافعي ودعبل والفرزدق وصفي الدين الحلّي (راجع العلاقات العربية الإيرانية الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية ص 285).
في شأن القضيّة الفلسطينية طرأ تحوّل كبير، وتضمين ثري لأحوالها في الكتب المدرسية، بعدما كانت المناهج الدراسيّة إبّان العهد الشاهنشاهي تعرض لخريطة «إسرائيل» وكأنها أمر واقع على مسرح الجغرافيا السياسية.
لقد دشّنت مناهج ما بعد الثورة منحى يُصوّب تاريخ القضية الفلسطينية وأهداف الصهيونية العالمية بشكل دقيق منذ المرحلة الابتدائية. وأشاحت تلك المناهج عن وجه الصراع الحقيقي القائم كل تضليل، مُبيّنة أهمية بيت المقدس ولإرهاصات الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية، وارتباط ذلك بالسياسات الغربية.
وفي ذلك نماذج عديدة. ففي كتاب الفارسية للصف الثاني الابتدائي «رسالة من طفل فلسطيني»، ولنفس المادة للصف الثالث الابتدائي درس حول «شاب من فلسطين»، وفي كتاب العربية للصف الأول المتوسط «صورة عن القدس»، ولنفس المادة للصف الثاني المتوسط للنظام الجديد «حول الانتفاضة»، وأيضا العربية للصف الثالث الإعدادي للعلوم الإنسانية شعر بعنوان «يا قدس» وشريط الأخبار «حول الانتفاضة» (راجع نفس المصدر ص 287).
وفي الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني المنصرف قررت وزارة التربية والتعليم الإيرانية تضمين العدوان الصهيوني على غزّة في مناهجها الدراسية. حيث ذكر حجة الإسلام بهرام محمديان المستشار بالوزارة أن الخطوة «تهدف إلى إجلال مقاومة وصمود أهل غزة أمام عدوان وحشي. وأن الوزارة أعدت مقترحا مفصلا بهذا الخصوص لتقديمه للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إسيسكو) بغية القيام بخطوات مماثلة من قبل الدول الإسلامية الأعضاء» (راجع تقرير الزميلة فاطمة الصمادي في موقع الجزيرة نت).
يوم القدس العالمي
بعد أقل من خمسة أشهر من انتصار الثورة الإسلامية وبالتحديد في 07 أغسطس/ آب 1979 أعلن الإمام الخميني أن «آخر جمعة من شهر رمضان المبارك، التي هي من أيام القدر، يوما للقدس، وأن يعلنوا من خلال مراسيم الاتحاد العالمي للمسلمين، دفاعهم عن الحقوق القانونية للشعب الفلسطيني المسلم» (راجع بيان الإمام الخميني بهذه المناسبة).
ورغم أن هذا الإعلان جاء بامتزاجات سياسية دينية باعتبار أنه مُحيَّن في شهر عبادي يكتنز دلالات روحية ونفسية متقدمة لأكثر من مليار مسلم؛ إلاّ أن رؤيته عبر مجهر التفكيك الاتصالي والحُشُودي يبقى مهما جدا.
فالإمام بإعلانه ذلك كأنه يتقصّد ضرب «المُتغيّر العرقي في التراتبية الحضارية» التي كان يُنادي بها غوستاف لوبون. فهو يُريد أن يقضي على فكرة الاحتكار الصهيوني لنقاء الجنس والعقل والاصطفاء، ثم عطف ذلك على التماثل النفسي والاتصال العضوي المُدّعى بينهم وبين تاريخ الأرض الفلسطينية.
بل إن الإمام أدرك قيمة الجمهور المُتشكّل من إفرازات «وسائل النقل والنشر» حسب غبريال تارد، حين قرّر إمكانية انتماء الفرد إلى أكثر من جمهور في نفس الوقت، وبالتالي نقل المعركة الوجودية إلى أقصى نقطة جغرافية في العالم، وبالتحديد الرأي العام الغربي القادر على التغيير باعتباره الوعاء البشري للأنظمة الكولونيالية.
لقد كانت خطوة يوم القدس العالمي نقلا من معركة عسكرية سياسية تقليدية إلى معركة رأي عام. وكان ذلك بمثابة الهاجس (ذاته) الذي دفع دافيسون لتحليل عملية مراحل تكوين الرأي العام حين يبدأ من دور الجماعات الأوليّة التي تحتضن الأفكار وتُنمّيها، إلى ظهور الزعامة التي تصيغ الأفكار وتقدمها للجمهور فتُؤثّر على مواقف وسلوك الآخرين، إلى مرحلة الاتصالات بين الجماعات المختلفة، وانتهاء بمرحلة التفكّك والاختفاء عندما تُؤطّر القضية في زوايا التقنين (راجع رأي دافيسون في تكوّن الرأي العام).
لقد بات ذلك الإعلان والتخصيص مساحة زمنية متحركة في العديد من بقع العالم الغربي والشرق الأدنى. وربما كان ذلك التجيير الدعائي هو بمثابة حديث لاسوال حين اعتبر الدعاية الوسيلة الوحيدة في خلق الانتماء والولاء لدى الجماهير.
كذلك فقد كان هدف الإمام الخميني من خلال إعلانه ليوم القدس العالمي الإحاطة بموضوع القضية الفلسطينية عبر زاوية الدين الذي هو في حقيقته إعادة تموضع «حول القاعدة الأعمق للتفكير، ولتحديد السلوك التي شكّلت مُحددا شرعيا ورئيسيا للسلطة والعلاقات الناجمة عنها» كما يُشبّه ذلك مارسيل غوشيه.
التشكيك بالهولوكوست
بعد انتخابه بأشهر شكّك الرئيس أحمدي نجاد في موضوع الهولوكوست. وقد كان ذلك التشكيك بمثابة التقويض الراديكالي لأسس قيام الكثير من السياسات والتعويضات المادية والمعنوية التي مازال يدفع ثمنها كل من يُتّهم بمعاداة السامية لصالح الكيان الصهيوني.
ولأن ما قاله أحمدي نجاد هو ضرب تحت الحزام، فقد لقي صدى غير عادي في أوساط تمتلك رأيا عاما كامنا في أوروبا بسبب القيود المفروضة على تناول موضوعات تخصّ الصهيونية واليهودية والهولوكوست والسّامية.
بُعيد تصريحات أحمد نجاد تحدّث بالتأييد لها نفرٌ غير قليل من مفكري العالمين الأنغلوساكسوني والفرانكفوني بشكل أزعج تل أبيب التي رأت في ذلك نبشا لمُسلّماتها التي دفعت من أجلها قرنا من العمل السياسي والاقتصادي المُتّحد.
لقد جاهر بتأييدها بول فرام رئيس مؤسسة حرية التعبير، والبروفيسور روبر فوريسون الأستاذ السابق بجامعة ليون الفرنسية، والبروفيسور آرتور باتز الأستاذ بجامعة نورتوسترن في اونستون ايلينويز بولاية شيكاغو والدكتور فردريك توبن مدير مؤسسة آديلايد في استراليا، والمحامي الألماني هورست ماهلر، والباحث الاجتماعي الفرنسي سرج تيون. وكلّهم ضحايا مواقفهم المناهضة «لأسطرة» قضايا الهولوكوست والصهيونية في العالم.
لقد أعادت تصريحات أحمدي نجاد الحديث من جديد عن علاقة ما جرى ويجري من تاريخ ممزوج ما بين مشاريع توراتية لاهوتية خيالية أنتجتها البروتستانتية المهاجرة إلى العالم الجديد وبين الصهيونية العلمانية ومصالح الدول العظمى بالاتّكاء على اليهودية.
وأصبح الكثير من الباحثين يتحدّث عن علاقة القيم الروحية اليهودية القديمة والمتماهية مع مجيء المُسَيَّا (المُخلّص)، والخط الفاصل بينها وبين رفضها الأوّلي للصهيونية العلمانية التي اجترحت مشروع الدولة الدينية خارج سياق التأويلات اليقينية لليهودية.
ثم الأكثر من ذلك فقد بدأت منظّمات حقوق الإنسان في العالم تتحدث عن العديد ممن سُجنوا وهُجّروا أو ممن هم رهن الاعتقال حاليا في أوروبا والولايات المتحدة بسبب مواقفهم من الهولوكوست كفردريك توبن، وارنست زاندل، وغرمار رودولف، وزيفريد وربك وغونتر كاغل، وولفغانغ فروليتش، ومانفرد رودر، وديفيد ايرفينغ وغيرهم كُثُر.
لقد كان هذا الموقف من الرئيس الإيراني فرصة جيدة كان يُمكن تثميرها لإنتاج رأي عام عربي إسلامي وعالمي لإبراز أصول القضية الفلسطينية التي أكلت نواصيها مشاريع التسوية، ونسيان المرحلة البلفورية والنكبة والنكسة والمُهجرّين لصالح حدود الرابع من يونيو.
لكن (وللأسف) مضت دول الاعتدال العربية في التسفيه من ذلك، وتثوير الحسّ المذهبي القومي ضد «المد الصفوي» القادم من الشرق. وكان ذلك بمثابة جموح أكبر في تضييع الفرص «إراديا» طمعا في تحقيق توازنات مُحددة في المنطقة
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2341 - الأحد 01 فبراير 2009م الموافق 05 صفر 1430هـ