من الأسئلة التي طُرحت أثناء وبعد مسيرة التجنيس: ماذا بعد؟ وهو سؤال سيبقى مفتوحا للجميع.
التجنيس مشكلةٌ لا تختص بفئةٍ أو طائفةٍ أو جمعيةٍ أو تيارٍ سياسي معين، وإنما هي همٌ وطني نازفٌ وكبير. ومن المسئولية الوطنية أن تُناقش بمنتهى الشفافية بين مختلف الأطراف الرسمية والشعبية، ليس للدخول في جدليات بيزنطية، وإنما للوصول إلى تصوّرات وتوافقات. فالاستمرار بإدارة هذا الملف بالصورة الماضية وما شهده من تداعيات، إنما يُبعد أكثر عن أجواء التوافق الوطني المأمول لحل المشكلات السياسية والأمنية.
مسيرة الجمعة أوصلت الرسالة بلاشك، فليس هناك إجماعٌ ولا شبه إجماع، ولا ربع إجماع حول التجنيس السياسي. وبالتالي فإن المعوّل على صحوةٍ تعيدنا إلى ثوابتنا الوطنية، وحسابات المصلحة العليا، بعيدا عن خلافاتنا السياسية الصغيرة. فالبلد المحدود المساحة والإمكانيات، والذي يعاني سنويا من أزمة مياه وكهرباء طوال أشهر الصيف، غاب عنه التفكير في كلفة تجنيس عشرات الآلاف من مواطني البلدان الأخرى.
لو كنا نتعاطى بشفافية وموضوعية وانفتاح مع مشكلاتنا، لما كنا بحاجةٍ إلى حشد عشرات الآلاف من المواطنين في يوم إجازتهم الأسبوعية، للتعبير عن موقفهم الصريح من قضية التجنيس. ولا ينبغي أن نتخذ من هذا الحشد ذريعة لكثرة المجادلات والتراشقات، أو الانتصار لسياسة الحكومة أو المعارضة، في الموقف من التجنيس. فلم تكن المسيرة لكسر العظم، أو إثبات الوجود، وإنما للتعبير عن الرأي بطريقة سلمية، وما يمكن أن يُبنى عليها من مواقف إيجابية في اتجاه التصحيح، من الأطراف المعنية.
مسيرة الجمعة كانت رسالة حضارية لإيصال الصوت الحقيقي للشارع، ونحن على ثقةٍ بأن هناك أطرافا كثيرة، في الحكومة كما في المعارضة، تهمها مصلحة البلد العليا، في هذا الملف الشائك بالذات. ويجب ألا تُشوّه هذه الرسالة أو تُترجم باتجاه تصعيدي أو تآمري، فهؤلاء المشاركون من مختلف المناطق والتيارات، لم يأتوا إلاّ والأمل يحدوهم بإمكانية التغيير الهادئ، بعيدا عن لغة الصدامات ومسيل الدموع.
هؤلاء، كغيرهم من المواطنين، يؤمنون أنهم في دولة قانون، وهم على ثقةٍ بأن صوت هذه الحشود لن يضيع في البرية، وأن هناك من يستمع للناس من داخل المؤسسة الرسمية، ومستعدٌ لمراجعة الحساب باتجاه إصلاح السياسات التي لا تحظى بتأييدٍ شعبي، وبالتالي تقويم المسيرة السياسية بما يخدم مستقبل البلد واستقراره السياسي على المدى البعيد، وبما يضمن مستقبل المواطن وأبنائه. فما أقسى الشعور بالغربة والضياع في الوطن، فكيف إذا أصبح شعورا عاما لدى السواد الأعظم من الناس؟ فأي إنتاجٍ أو تنميةٍ تتوقّعه من شعبٍ يشعر بالإقصاء لصالح فئاتٍ غريبةٍ يتم إقحامها في المشهد الوطني، ربما تحقق توازنات صغيرة مرحليا في السفينة الجانحة، لكنها ستدفع بها إلى الغرق ولو بعد حين.
لم نكن بحاجةٍ إلى مسيرةٍ من 60 ألف مواطن، يشارك فيها الرجال والنساء، والشباب والشيوخ والأطفال، لو انتبهنا حين قُرع جرس الإنذار الأول قبل عامين بتخطينا حاجز المليون نسمة. فلم يفكر أنصار التجنيس بالكلفة الباهظة للأعداد الكبيرة الداخلة على خط المواطنة، من تعليم وصحة وإسكان... وانعكاساتها على مستوى الفقر والبطالة والحرمان.
الـ 60 ألفا وجدوا أنفسهم أمام التجنيس كما وجد الحارث بن عبّاد نفسه أمام فرسه «النعامة» فقال: «لم أكن من جُناتِها علِم اللهُ... وإنّي بحرِّها اليومَ صالي»
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2341 - الأحد 01 فبراير 2009م الموافق 05 صفر 1430هـ