حدد قاضي قرطبة منطلقات واضحة لنظرية الاجتهاد ومنهج القياس عنده. فاعتبر أن أصناف الألفاظ التي تتلقى منها الأحكام من السمع أربعة «ثلاثة متفق عليها، ورابع مختلف فيه» (الجزء الأول، ص 15). وتتوزع المتفق عليها إلى أنواع «لفظ عام يحمل على عمومه، أو خاص يحمل على خصوصه، أو لفظ عام يراد به الخصوص، أو لفظ خاص يراد به العموم». وفي اللفظ الأخير «يدخل التنبيه بالأعلى على الأدنى، وبالأدنى على الأعلى، وبالمساوي على المساوي» (الجزء الأول، ص 16). ويأتي ابن رشد على خلاف العلماء في كتب أصول الفقه في صيغ النهي و»هل تدل على الكراهية أو التحريم، أو لا تدل على واحد منهما» (الجزء الأول، ص 16). كذلك يوضح الخلاف على صيغة الأمر واختلافه بين صيغة الخبر الذي يراد به الأمر، أم المستدعى تركه، أو يراد به النهي. بعدها يأتي في الخلاف على الأعيان التي يتعلق بها الحكم، فهي إما أن يدل عليها بلفظ يدل على معنى واحد وهو يعرف في صناعة أصول الفقه بالنص «ولا خلاف في وجوب العمل به»، وإما أن تكون دلالته على تلك المعاني بالسواء «وهو الذي يعرف في أصول الفقه بالمجمل» ولا خلاف في أنه لا يوجب حكما، إذ تكون دلالته على بعض تلك المعاني «أكثر من بعض» ويسمى الأكثر بالظاهر ويسمى الأقل بالمحتمل. ويبدأ الخلاف بين العلماء إذا «ورد مطلقا حمل على تلك المعاني التي هو أظهر فيها حتى يقوم الدليل على حمله على المحتمل». ويشرح ابن رشد المعاني الثلاثة في اختلاف الأدلة من ناحيتي اللفظ أو الخطاب. ويرى أن القياس الشرعي هو «إلحاق الحكم الواجب لشيء ما بالشرع بالشيء المسكوت عنه لشبهه بالشيء الذي أوجب الشرع له ذلك الحكم أو لعلة جامعة بينهما» (الجزء الأول، ص 17).
لذلك جاء القياس الشرعي على صنفين: قياس شبه وقياس علة، و»هذان الصنفان يتقاربان جدا لأنهما إلحاق مسكوت عنه بمنطوق به، وهما يلتبسان على الفقهاء كثيرا جدا». ويؤيد «الظاهرية» في نزاعها في قياس الشبه ويعارضها في قياس العلة. (الجزء الأول، ص 17).
يأتي إلى الفعل، وهو أكثر الطرق التي تتلقى منها الأحكام الشرعية، واختلاف العلماء على طرقه. فهناك من قال إن «الأفعال ليست تفيد حكما، إذ ليست لها صيغ»، وهناك من قال «إنها تتلقى منها الأحكام». واختلفت الفئة القابلة بالأفعال «في نوع الحكم» وانقسمت بدورها إلى فريقين: الأول يقول إنها «تدل على الوجوب». والثاني يقول إنها «تدل على الندب». ويفصِّل قاضي قرطبة «أصناف الطرق التي تتلقى منها الأحكام أو تستنبط»، إما الإقرار «فإنه يدل على الجواز» (الجزء الأول، ص 18).
ثم يأتي على الإجماع وبرأيه فهو «مستند إلى أحد هذه الطرق الأربعة»، فينقل الحكم «من غلبة الظن إلى القطع». والسبب برأي قاضي قرطبة أن الإجماع ليس «أصلا مستقلا بذاته من غير استناده إلى واحد من هذه الطرق». ويقسم المعاني المتداولة المتأدية من هذه «الطرق اللفظية» إلى ثلاثة أصناف: إما أمر بشيء، وإما نهي عنه، وإما تخيير فيه. وتتوزع الأحكام الشرعية المتلقاة من هذه الطرق اللفظية إلى خمسة: واجب، ومندوب، ومحظور، ومكروه، ومخير فيه وهو المباح. (الجزء الأول، ص 18).
ثم يشرح أسباب الاختلاف بالجنس وهي ستة طرق: تردد الألفاظ، الاشتراك الذي في الألفاظ، اختلاف الإعراب، تردد اللفظ بين حمله على الحقيقة أو حمله على نوع من أنواع المجاز، إطلاق اللفظ تارة وتقييده تارة، التعارض في الشيئين أو في الأفعال والإقرارات أو في القياسات أو التعارض الذي يتركب من أصناف ثلاثة «معارضة القول للفعل أو للإقرار أو للقياس، ومعارضة الفعل للإقرار أو للقياس ومعارضة الإقرار للقياس» (الجزء الأول، ص 19).
يحدد ابن رشد النظرية العامة في مقدمة كتابه ثم يشرح تفاصيلها، ويأتي على تعارض مناهج الأئمة والعلماء والفقهاء، ويحدد نقاط اختلافهم وأسباب تعارضهم، وينتهي إلى تحديد دائرة اجتهاده وقياسه ويقدم قياس المصالح المرسلة أو المصلحة ( قاضي قرطبة على المذهب المالكي) ويعرض مختلف الأبواب على 67 عنوانا تشتمل مختلف المسائل وتتناول كل ما يتعلق بشئون العبادة والحياة والمعاملات وينتهي أخيرا إلى عرض رأيه في القضاء في «كتاب الأقضية» ويوزعه على ستة فصول وهي: في معرفة من يجوز قضاؤه، في معرفة ما يقضي به، في معرفة ما يقضي فيه، في معرفة من يقضي عليه أو له، في كيفية القضاء، وفي وقت القضاء.
ولا شك في أن قراءة الفصول المذكورة مهمة لأنها تكشف رأي ابن رشد بمهنته وتساعد في رسم شخصيته الغامضة ودوره في ممارسة هذه الوظيفة. فالقراءة تكشف «ظل» قاضي قرطبة في وقت يتم التركيز على أعماله في حقل الفلسفة.
يعرض صاحب «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» خلافات الفقهاء والأئمة في من يجوز قضاؤه والصفات المشترطة فيه. فقيل في مسألة الفسق إنه «يوجب العزل». واختلفوا في شرط أن يكون القاضي «من أهل الاجتهاد» فالإمام الشافعي قال: «يجب أن يكون من أهل الاجتهاد» ومثله حكى بعض أصحاب مالك. واختلفوا في مسألة حكم العامي قال أبو حنيفة: «يجوز» ووافق جد ابن رشد القاضي على هذا الرأي. واختلفوا في اشتراط الذكورة، إذ قال أبو حنيفة إنه يجوز «أن تكون المرأة قاضيا في الأموال» وقال الطبري يجوز أن تكون «حاكما على الإطلاق في كل شيء». وقال جمهور العلماء إنه لا يجوز.
يربط ابن رشد أسباب اختلاف العلماء في مسألة تحمل المرأة مسئولية القضاء بتعارض أقيستهم. فمن أجاز حكمها في الأموال استنبطه من جواز شهادتها في الأموال، ومن رأى حكمها نافذا في كل شيء انطلق من «أن الأصل هو أن كل ما يتأتى منه الفصل بين الناس فحكمه جائز إلاّ ما خصصه الإجماع من الإمامة الكبرى». ويشرح اختلاف الفقهاء في «أن يكون في المصر قاضيان» وفي اختلافهم في الأمي «هل يجوز أن يكون قاضيا» (الجزء الثاني، ص 565).
وانتقل إلى في ما يحكم. اتفق العلماء والفقهاء على «أن القاضي يحكم في كل شيء من الحقوق كان حقا لله أو حقا للآدميين، وأنه نائب عن الإمام الأعظم في هذا المعنى وأنه يعقد الأنكحة ويقدم الأوصياء» (الجزء الثاني، ص 566). ويشرح في ما يكون به القضاء ويكون بأربع «بالشهادة، وباليمين، وبالنكول، وبالإقرار، أو بما تركب من هذه» (الجزء الثاني، ص 567). ويوضح خلافات الفقهاء وما يجوز أو ما لا يجوز في كل تلك المسائل مثل النظر في العدد والجنس من ناحية الشهود فاتفقوا مثلا «على أنه لا يثبت الزنا بأقل من أربعة عدول ذكور» واتفقوا «على أنه تثبت جميع الحقوق ما عدا الزنا بشاهدين عدلين ذكرين» وشذ عن هذا الاتفاق الحسن البصري. وأجمع الجمهور مثلا «على أنه لا يرث القاتل المقتول» (الجزء الثاني، ص 570).
اختلف العلماء في قضاء القاضي بعلمه فأجمع العلماء على أن «القاضي يقضي بعلمه في التعديل والتجريح». أما إذا «شهد الشهود بضد علمه لم يقض به، وأنه يقضي بعلمه في إقرار الخصم وإنكاره». وشذ الإمام مالك إذ رأى «أن يحضر القاضي شاهدين لإقرار الخصم وإنكاره» (الجزء الثاني، ص 576). أما الإقرار إذا كان بينا «فلا خلاف في وجوب الحكم به، وإنما النظر فيمن يجوز إقراره ممن لا يجوز. وإذا كان الإقرار محتملا رفع الخلاف» (الجزء الثاني، ص 578). واتفق الفقهاء على أن القاضي «يقضي لمن ليس يتهم عليه. واختلفوا في قضائه لمن يتهم عليه» واتفقوا على «أنه يقضي على المسلم الحاضر. واختلفوا في الغائب وفي القضاء على أهل الكتاب» (الجزء الثاني، ص 579).
وعن كيف يقضي فإنهم «أجمعوا على أنه واجب عليه أن يسوي بين الخصمين في المجلس وألا يسمع من أحدهما دون الآخر، وأن يبدأ بالمدعي فيسأله البينة إن أنكر المدعى عليه» (الجزء الثاني، ص 580). والحكم عند مالك «أن يقضي بأعدل البينتين ولا يعتبر الأكثر» (ص 581). أما متى يقضي القاضي فهي موزعة على ثلاث حالات منها «ما يرجع إلى حال القاضي في نفسه» ومنها «ما يرجع إلى وقت إنفاذ الحكم وفصله» ومنها «ما يرجع إلى وقت توقيف المدعى فيه وإزالة اليد عنه إذا كان غبنا». وعلى القاضي أن يتجنب تلاوة الحكم وهو في حال غضب أو عطش أو جوع أو خوف أو «غير ذلك من العوارض التي تعوقه عن الفهم» (ص 582).
ينتهي ابن رشد إلى شرح مفهومه للقضاء، فيذكر أن الأحكام الشرعية تنقسم قسمين: الأول «يقضي به الحكام وجل ما ذكرناه في هذا الكتاب هو داخل في هذا القسم»، والثاني «لا يقضي به الحكام، وهذا أكثره هو داخل في المندوب إليه» (ص 583). وأهم من كل ذلك يرى قاضي قرطبة «أن السنن المشروعة العملية المقصود منها هو الفضائل النفسانية» وفي هذا الجنس «تدخل العبادات، وهذه هي السنن الكرامية، ومنها ما يرجع إلى الفضيلة». والسنن أجناس منها ما يتعلق في المطعم والمشرب والزواج و»منها ما يرجع إلى طلب العدل والكف عن الجور»، وهذه تقتضي العدل في الأموال، والعدل في الأبدان، ويدخل أيضا «القصاص والحروب والعقوبات». وإنما هذه كلها «يطلب بها العدل» سواء السنن الواردة «في الأعراض» أو الواردة «في جميع الأموال وتقويمها» ويقصد بها طلب الفضيلة (السخاء) وتجنب الرذيلة (البخل). كذلك هو حال السنن الواردة في الاجتماع «الذي هو شرط في حياة الإنسان وحفظ فضائله العملية والعلمية، وهي المعبر عنها بالرياسة، ولذلك لزم أيضا أن تكون سنن الأئمة والقوام بالدين» (الجزء الثاني، ص 584).
ساهم ابن رشد في حقول كثيرة وأهم حدث في حياته وأعماله هو دوره في القضاء، إذ مارس حكم القضاء عمليا (قاضي قرطبة) ونظريا صاحب كتاب «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» ولعب دوره في إنضاج الفقه المالكي وتطويره من خلال المقارنة. وهو منهج أنتج في النهاية كتاب «الموافقات» للإمام الشاطبي، الذي عاصره المؤرخ ابن خلدون، ويعتبر كتابه من ألمع كتب الفقه على المذهب المالكي.
يتركز الجانب الإبداعي في شخصية ابن رشد في حقل الفقه وليس في مصنفاته الفلسفية. فالجانب الفقهي أقوى عنده من الجانب الفلسفي. وللأسف نجد هذا الجانب مقموعا ومغيبا في شخصيته وأعماله. ويتم التركيز على نقاط ضعفه في الفلسفة لا نقاط قوته في الفقه وحقل القضاء. فالقضاء في الإسلام هو مركز الدولة وعصبها، والحكم به هو حكم الشرع (الكتاب والسنّة) ولا قيام للدولة من دونه، وأهمية ابن رشد هو في هذا المكان حين مارس القضاء على مستويين، وأكد على أن القاضي هو نائب إمام المذهب (مؤسس المذهب) في مصره، وقضاؤه يسري على الكل، وأساس القضاء هو العدل ورفع الظلم ومحاربة الجور والفساد والدعوة إلى «الفضائل النفسانية» في سنن الحياة والاجتماع. ومن شروط عدل القاضي أن لا ينطق حكمه في حالات الغضب أو الجوع أو العطش أو الفزع والخوف. فإلى الراحة النفسية والاستقرار المعيشي هناك الحرية وهي أساس العدل، والعدل أساس الحكم. ومن هذا المنطلق الإنساني والإسلامي والتسامحي نفهم لماذا كان قاضي قرطبة يخاطب المنصور (أمير دولة الموحدين) بـ «يا أخي».
شهد ابن رشد الحفيد الكثير من التقلبات وارتقى أعلى المناصب في عهد الأمير المنصور (580 - 595 هجرية)، وتأثر بفتاوى جده ونقل الكثير من نصوصه الفقهية. إلاّ أنه انقلب على الأشاعرة وهاجم الإمام الغزالي بسبب انتقاداته للفلاسفة. وحين اتهم بالتعاون مع والي قرطبة (يحيى) شقيق أمير الموحدين (المنصور) لوراثة الحكم غضب الأخير منه ثم عاد ورضي عنه ودعاه إلى بلاطه في مراكش.
توفي ابن رشد الحفيد في العام 595 هجرية (1199م) وتبعه المنصور بعد شهور. وعاش أولاد ابن رشد في كنف البلاط الموحدي في عهد الأمير الناصر (توفي 610 هجرية / 1213م). واشتهر أولاده بالقضاء والطب وبرز منهم ولده محمد عبدالله بن رشد الحفيد (546 - 622 هجرية) في الطب وعمل في بلاط الناصر. وانتهى عصرهم الذهبي بنهاية دولة الموحدين وسقوط قرطبة سنة 633 هجرية (1235 - 1236م).
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2667 - الخميس 24 ديسمبر 2009م الموافق 07 محرم 1431هـ