كان صغيرا، وهو في الثالثة والعشرين من عمره قبل ربع قرن، وازداد صغرا وهو يرحّب بتدخل الأميركان في بلده وقد ازداد عمره 23 عاما أخرى. ولكن هل نضح هذا الإناء الأجوف إلا بما فيه؟
لنرجع قليلا إلى تلك الحقبة الساخنة لنقرأ مواقف الشاب النزق آنذاك، ليعرف الجميع انه لم يأت بجديد، إلا زيادة في النزق والعجرفة والغرور.
يومذاك، وضع يده بيد اثنين من أصحاب الوجوه السود في التاريخ، ليصبح هذا الثالوث عبرة للمعتبرين: بني صدر، ومسعود رجوي، وثالث القوم المدعو حسينا. ألم يقولوا: إن الطيور على أشكالها تقع؟
ولنتذكر مغامرة بني صدر، أول رئيس انتخبه الإيرانيون في عزّ ثورتهم، وفي ظروف الصراع والتصارع الذي مرت به الثورة، أراد أن يكسب الإمام الخميني الى جانبه بترشيح ابنه أحمد لرئاسة الوزراء، فأصدر الخميني أمرا يحرّم فيه تولي أحدٍ من أقربائه أي منصب حكومي رفيع، فسقط في أيدي الرجل. الإيرانيون ملّوا من خطاباته التي كان يكثر فيها من قول «أنا» حتى أسموه «بني مَن» أي «بني أنا»، وطبعا لا يمكن أن تطالب أحدا بالخروج من جلده، ولذلك كان من الصعب على التلميذ الباريسي أن يقود ثورة أو ينسجم مع طموحاتها آنذاك، فلم يجد ما هو أفضل من القيام بحركات بهلوانية على جبهة الحرب لتنشر له الصحف صورا وهو يمتطي دراجة نارية ويعتمر خوذة من الحديد! وكان يقابله بهلوانٌ على الطرف الآخر من الجبهة اسمه صدام حسين كان يقوم حينها بحركات بهلوانية أخرى! وانتهى به الصراع الداخلي إلى الهروب على متن طائرة متخفيا في زيّ امرأة بعد ان حلق شاربه الأعقف! وفي باريس استقر به المقام طويلا ليستقر في روعه أخيرا أنه أكبر فلاسفة القرن العشرين ويمنّي نفسه بالعودة ليحكم الإيرانيين من جديد!
في رحلة الهروب بالطائرة كان صاحبه مسعود رجوي، الذي اصطدم بالثورة من البداية، حتى انتهى الامر بأتباعه إلى التظاهر في شوارع طهران حاملين الاسلحة ومحتجزين المارة كالرهائن، وتفجير الحزب الجمهوري ومبنى رئاسة الوزراء، وانتهت مغامرته بالهرب فرارا بجلده إلى باريس في منتصف العام 1981، ليؤسس مع بني صدر «المجلس الوطني للمقاومة». ومنها انتقل إلى العراق ليبدأ بإرسال «مجاهديه» إلى داخل إيران لتفجير الأماكن الآمنة وترويع القرى الحدودية، في أبشع صور يمكن أن ينتجها «تحالف الأشرار»... إذ وضع يده في يد صدام الذي غزا بلاده واحتل أرضه وقتل مئات الآلاف من شعبه وانتهك حرماتها.
سيرة الرجل تذكّر المتأمل بقصة أخرى من عِبَر التاريخ الغابر: هل تذكرون قصة سجاح ومسيلمة الكذاب؟ رجل مهووس من بني حنيفة ادعى النبوة في اعقاب وفاة النبي (ص)، وفي زمنٍ توالد فيه المتنبئون كالديدان في جزيرة العرب برزت سجاح «نبية» من جحرها. وتم إشهار الزواج «المقدّس» «لأهداف تنظيمية كبرى» في أكبر مهزلة ساخرة في تاريخ العرب جميعا.
وفي التاريخ الحديث أعاد مسعود ومريم رجوي إحياء مراسم المهزلة حرفا حرفا ! كانت متزوجة من شخص آخر، فانفصلت عنه لتتزوّج من مسعود في بغداد العام 1986، وسط مباركة «منظمة المجاهدين»! وتولّت منصب «نائب قائد جيش التحرير الوطني»، وبعد فترة تخلّت عن هذا المنصب متنازلة عن قيادة الحركة للزوج الحبيب. ومجلس «المقاومة» الذي شكّله الهاربان في باريس انتخبها رئيسا لحكومة إيران المستقبلية، وهي تعيش على أمل العودة مع زوجها الى حكم إيران!
أما ثالث القوم، حسين الصغير، فقد كان من البداية نزقا، كان يظن أن انتماءه إلى اسم الخميني الكبير سيضمن له البراءة من العبث واللهو، وهو ما وجدنا نتائجه المقرفة في سيرة ابني صدام. الرجل لم تتغير أفكاره، وما يطرحه الآن ما هو إلا صدى مغبرّا لأفكاره القديمة ومواقفه الأولى، التي اضطرت جده الإمام إلى عزله في قم في حركة أشبه بالطرد. وحانت الفرصة الآن ليلجأ إلى الاحتلال الأميركي أملا بـ «تحرير إيران». يكفي لتعرفه ان يصفه الكاتب الأميركي المعروف توماس فريدمان بأنه «من التقدميين» وان هدفه الاول «فتح الحوزات الشيعية في العراق لتدريس نظريته لجيل الشباب في فصل الدين عن الدولة»، ومن هنا يعتبره فريدمان «قائدا روحيا حقيقيا»، وكفاها تزكية وشهادة تضمن له العودة إلى إيران على متن طائرة أميركية، في زمن كثر فيه المتنبئون الزاحفون على البطون.
طبعا لا غرابة أن يسعى رجوي او بني صدر أو حسين الصغير إلى العودة إلى إيران ولو تحالفوا مع الشيطان الاكبر، ولكن لماذا كل هذا الاحتفاء بتصريحات الخميني الصغير؟ لماذا تبرز تصريحاته على صدر الصفحات الاولى كل يوم؟ هل يستحق الرجل هذا الحجم كله؟ بل لماذا هذا الحماس والحب العارم للمتنبئة مريم رجوي، سجاح القرن العشرين التي غصّت بها مقالات بعض كتابنا «التقدميين»؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 342 - الأربعاء 13 أغسطس 2003م الموافق 14 جمادى الآخرة 1424هـ