العدد 342 - الأربعاء 13 أغسطس 2003م الموافق 14 جمادى الآخرة 1424هـ

التصويت الشعبي

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

كشف برنامج «سوبر ستار» الذي تبثه محطة «المستقبل» الفضائية عن ثغرات انظمة «التصويت الشعبي». فالصدمة التي احدثها خروج المتنافس اللبناني ملحم زين شكلت مناسبة للحديث عن معنى الديمقراطية وآليات انتاجها للسياسة. فالبرنامج الفني (الغنائي) تحوّل في لحظات الى برنامج سياسي بامتياز بسبب سوء الفهم الذي نشأ عند المشاهد وعدم قدرته على التمييز بين الاكثرية والاقلية ونظام النسبية وبين تفضيله هذا المترشح على ذاك.

اكتشف المشاهدون فجأة ان التصويت الشعبي أو نظام الديمقراطية النسبية لا يختار دائما الافضل بل يميل في غالبية الاحيان إلى اختيار الاقرب. وهذه ثغرة من ثغرات الديمقراطية التي اتفق على انها افضل نظام انتجته الانسانية حتى الآن. فالديمقراطية التي اعتمدت نظام المساواة المطلقة بين اصوات البشر من دون تمييز في اللون والجنس والموقع الاجتماعي والمرتبة العلمية، ووضعت الجميع سواسية كأسنان المشط في مرتبة واحدة، كانت الخيار المفضل لدى اوروبا واميركا لضبط توازن المجتمع واحتواء التعارضات والسيطرة سياسيا على التناقضات حتى لا تلجأ المجموعات إلى العنف لحل مشكلاتها وقضاياها ومطالبها.

نظام التصويت الشعبي يعتمد آلية عمياء في تقرير انتاج السلطة السياسية... إلا ان تلك الآلية ليست مجردة ايضا من احاسيس البشر ومشاعرهم وتفضيل الناخب (أو المقترع) الاقرب إليه على الأبعد. فالديمقراطية في العالم العربي (اذا وجدت) تميل الى اختيار علاقات القرابة والمناطق ويتجه الناخب دائما إلى اختيار بين قريب وأقرب وليس بين حسن وأحسن. فالناس عموما، وباستثناء قلة قليلة، لا تستخدم وعيها (وعي المصالح) وتقترع للأفضل بل هي تميل - وهذه طبيعة بشرية انسانية - إلى تفضيل الاقرب اليها على الأبعد.

هذا في العالم العربي. أما في اوروبا واميركا الشمالية إذ خفت علاقات القرابة والمناطق، حلت مكانها ما اتفق على تسميتها باللوبيات وهي اجهزة ضغط منظمة تصنع الرأي العام في لحظات الاستنفار السياسي للتصويت الشعبي.

واللوبيات في اميركا مثلا متوزعة بين اقليات اثنية (عرقية) ودينية ولونية وبين مجموعات ضغط اقتصادية تشرف عليها مؤسسات ضخمة تمول الحملات الانتخابية التي تصل كلفتها احيانا إلى عشرات الملايين من الدولارات.

في الولايات المتحدة مثلا نسمع بأسماء شتى من اللوبيات: اللوبي اليوناني، الارمني، التركي، الصربي، البولندي والروسي... وأقواها اللوبي الارلندي واللوبي اليهودي والكنائسي (المسيحيون الجدد).

هذه اللوبيات التي تمثل اقليات معترف بها في الدستور الاميركي تلعب ادوارا اقوى من حجمها وتسهم في التأثير على الرأي العام الذي بدوره يختار بناء على قناعات ليست بالضرورة تمثل مصلحته المباشرة.

إلى هذه اللوبيات هناك اجهزة الضغط الكبرى التي تقودها المؤسسات الاحتكارية من شركات النفط والطاقة، إلى هيئات التصنيع الحربي، اضافة إلى منظمات تدافع عن حقوق الاقليات والمزارعين والبيئة واحيانا الحيوانات. كل هذه الاجهزة تلعب دورها المباشر في صنع الرأي العام قبل ان يذهب الناخب إلى صندوق الاقتراع. وبعد التصويت الشعبي تنتهي اللعبة الديمقراطية وتبدأ ألاعيب اللوبيات والاجهزة في صناعة القرار السياسي. وهكذا دواليك.

التصويت الشعبي هو افضل وسيلة سياسية للرقي والتقدم، وهو مبدأ يجب التعارف عليه والاعتراف به حتى لو جاءت النتائج غير متوافقة مع رغباتنا واختياراتنا الخاصة. فمن شروط الديمقراطية الموافقة على ما تفرزه صناديق الاقتراع من نسب مئوية. والاكثرية في النهاية يجب ان تحكم بشرط ان تحترم الاقلية وتحافظ على حقها في الاعتراض السلمي إلى ان تحين فرصة ثانية للاقتراع والتصويت. ومن شروط الديمقراطية تداول السلطة سلميا لأن التصويت الشعبي اعطى حق الاختيار حتى لو كان الناخب لا يعبر عن قناعاته بشكل جيد بسبب ميله إلى تفضيل الاقرب على الافضل. هذه هي شروط اللعبة. واللعبة يجب احترامها مهما كانت نتائج التصويت.

لكل نظام سلبياته وحسناته. ومن سلبيات الديمقراطية انها وضعت المعادلة النسبية شرطا لنجاحها وديمومتها حتى تستمر في احتواء تعارضات البشر ومنع خلافاتهم من الانفجار خارج دائرة المؤسسات الدستورية. فالسلبيات الناجمة عن ثغرات الديمقراطية (التصويت الشعبي) تبقى الخيار الافضل لأنها في النهاية تدرب الانسان على قبول الخسارة حتى لو كانت قناعته مغايرة للنتيجة. انها ضريبة سياسية مضافة. ولكنها ضريبة لابد من قبولها حتى لا يخسر الانسان حقه في التعبير عن رأيه.

موضوع «سوبر ستار» ليس بعيدا عن آلية التصويت الشعبي، ونتائجه ليست بالضرورة الافضل، إلا انها ضريبة يجب دفعها وقبولها لأنها تبقى الأقرب إلى سلوك انساني أرقى فيجب ان نتعوّد عليه ونقبله كما هو

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 342 - الأربعاء 13 أغسطس 2003م الموافق 14 جمادى الآخرة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً