العدد 480 - الإثنين 29 ديسمبر 2003م الموافق 05 ذي القعدة 1424هـ

الدولة الثانية بعد العراق

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

رحم الله الرئيس جمال عبدالناصر، فله مقولة من الصعب أن تفارق عقل جيلنا، لقد قال تبريرا لكارثة 67: «لقد توقعناهم من الشرق، فجاءونا من الغرب!» ويقصد الطائرات الحربية المعادية التي قيل وقتها انها جاءت من قاعدة هويلس في ليبيا.

مر على هذا الأمر 36 عاما، وقد فاجأتنا الحوادث من جديد من الغرب، ومن ليبيا الثورة، فالاتفاق الليبي البريطاني الأميركي الذي أعلن في الفترة الأخيرة أصاب كثيرين بنوع من (الصدمة) البعض: وكانت أخبار تخلي ليبيا عن تصنيع أسلحة دمار شامل صدمة مباركة، وخطوة جريئة ومرحبا بها، وآخرون: كانت الأخبار نفسها صدمة مزعجة وغير مصدقة، أن يعود بلد عربي (ثوري) طالما حمل العصي (بالعرض) في كثير من أمور (الأمة) بل والأمور الدولية الثورية، من إفريقيا إلى جنوب شرق آسيا وشمال ايرلندا، أن تلتحق مرة أخرى بـ (الامبريالية الدولية) فهذا هو العجب! ولكن زماننا يأتي بالأعاجيب.

سيختلف المصدومون سلبا والمصدومون إيجابا عن الأسباب التي جعلت من ( الجمهورية العظمى) تأخذ هذا الطريق المخالف كليا لكل توقعات الساسة والمعلقين العرب، وستنتشر التفسيرات ذات المنحى اللصيق بنظرية المؤامرة، وهذا شأن تعودنا عليه وليس فيه جديد.

الجديد هو حديث سيف الإسلام القذافي على شبكة تلفزيون الاوربت مساء الاثنين الثاني والعشرين من ديسمبر/كانون الأول الجاري، فقد قدم الكثير من الحجج والتفاصيل، وشرح بإسهاب (طريق ليبيا الجديد) الذي يتحول من ( ثورة الآباء) إلى (ثورة الأبناء) ليس لدي شخصيا موقف من هذا التحول، فأنا من القليلين الذين يؤمنون بنظرية قديمة مفادها (في السياسة، وخصوصا السياسة العربية، توقع غير المتوقع). إلا أن بعض الأفكار التي قالها سيف الإسلام الداعي إلى السلام استوقفتني.

قال (لا نريد أن نعيش في ليبيا كبش فداء) أي أن ليبيا الثورة قدمت الكثير من أجل (الشعارات العربية العامة) ثم أصبحت فداء لهذه الشعارات بما قامت به من أفعال! وقال: (ان الوحيد من الحكام العرب الذين اطلعوا على الاتفاق الليبي الأخير مع الدول الكبيرة ( بريطانيا وأميركا) هو ياسر عرفات، وقد بارك هذا التوجه!) ولا اعرف أن كان في هذا العصر من يستطيع أن يصل لياسر عرفات في محبسه يسمع أو يبارك، دون أن تمر كلماته الصادرة والقادمة على الإسرائيليين، ولكن دعنا من هذا الحديث فهو سيرة أخرى.

وقال سيف الإسلام: لقد دخلنا الاتفاق مع الغرب لأننا لا نريد توسطا من أحد، ولا يحمل جميلا من أحد (العرب) ثم يبرر سيف الإسلام هذه الخطوات بأنها لمصلحة الليبيين، لان (الظروف اختلفت)

ما فعلته ليبيا كان يدور في الأفق، كان هناك حديث هامس على فك (النظام القديم) والتحلل من كل الارتباطات القديمة، كونه شرطا مسبقا للتسامح مع ليبيا الدولة وليس النظام ! إلا أن ذلك يحدث بالشكل وفي التوقيت الذي أتى به فهو المفاجأة.

لقد لعبت ليبيا في العقود الثلاثة الأخيرة دور (المدافع عن الشيطان) ولم تُذكر (ثورة) أو (حركة تمرد) في الشرق أو في الغرب إلا ومدت ليبيا يدها للمصافحة والتعاون والدعم، وكان العرب قاطبة لا يستطيعون أن يسايروا هذه الثورية المتأججة، على عكس ما يرى العقيد حتى جاء حين من الدهر لبس العقيد فيه قفازا ابيض على يديه، علامة الطهارة وحتى لا تصافح يده (الثورية) يد آخرين تقاعسوا عن مساندة الثورة العالمية.

ساند العقيد في صعوده الثوري وبقائه، ثروة ليبية هائلة من النفط، وعدد محدود من السكان الذين لم يتطلعوا أو لم يتطلع غالبيتهم إلى حياة مختلفة، إلا أن الحقيقة الأخرى أن ليبيا أجادت الرقص مع المتغيرات الدولية، ففي الوقت الذي قدمت مساهمات للجيش الجمهوري في شمال ايرلندا، قدمت بعد سنين قصيرة كل المعلومات عن تلك المساندة في صفقة للحكومة البريطانية، وفي الوقت الذي أنزلت فيه قسرا طائرة حكام اليسار السودانيين في بداية السبعينات وقدمتهم الى النميري، في وقت كانت الجمهورية الشعبية العظمى ألد أعداء موسكو، حصل بعد ذلك لقاء حميم غير مسبوق، بين قادة الاشتراكية الدولية وقادة الاشتراكية العربية! ثم أخيرا قدمت الجماهيرية أيضا كل ما لديها من معلومات عن بعض (الثوريين) و(الرافضين) وتعيسي الحظ الذين ساروا وراء شعارات ثورية من نوع جديد، في تعاون غير مسبوق بين أجهزة المخابرات الليبية والغربية. هكذا هي ليبيا حائرة مُحيرة، حقل تجارب لنظريات سياسية، واتفاقات واختلافات، تخرج من الإطار العربي، لتدخل في الإفريقي، وتخرج من الإفريقي لتدخل في الدولي.

ما لفت نظري في مقابلة سيف الإسلام القذافي قوله (من يريد من الليبيين أن يعارض السياسة الجديدة، فلا مانع أن نعطيهم بعض المال ليخرجوا خارج ليبيا) ثم قال عبارة أخرى لها دلالة ( لا نريد أن نعود إلى حكم الوراثة).

بمقارنة هذين النصين نجد أن سيف الإسلام يبتعد عما يبشر به، فهو يبشر بحرية الليبيين وتساوي قدرهم في الوطن، وهي حرية مستحقة وواجبة، في الوقت الذي يطالب من المعارض أن يخرج خارج البلاد، السؤال من يقرر ذلك، وهل البلاد هذه (ملك خاص للبعض) وكيف تستقيم الدعوة إلى الإصلاح وهناك ممانعة في توريث الحكم، ثم يطرد المواطنون من (الورثة)؟

ليس ماضي لبيبا هو المهم، مع تسليمنا بان هناك أسئلة كبيرة مثل من المسئول عن صرف كل هذا المبالغ الخرافية على أسلحة الدمار الشامل في ليبيا، وكيف عطلت التنمية الإنسانية كل هذه السنوات، لا شك أن مثل هذه الأسئلة ستطرح، ولكن الأهم الآن هو المستقبل.

والمستقبل يطرح علينا سؤالا مهما ومركزيا، وهو هل الإصلاحات في ليبيا هي فقط لفتح أبواب ليبيا للتفتيش الدولي والتخلص من أسلحة الدمار الشامل، وتجسير العلاقة مع الغرب الاقتصادية والثقافية والسياسية، هل كل ذلك (وهو مبارك ومحبذ) سيبقى محصورا في العلاقات الخارجية، ورضا الغرب أو حتى مسايرة العصر، وإنهاء الصراع بعد (تجاوز الصعاب التي واجهتها الثورة وانتصرت عليها) على حد تعبير سيف الإسلام!

أم أن الاجندة المستقبلية ستتجاوز العلاقات الخارجية الليبية لتطاول (إصلاحات) داخلية واجبة طال انتظارها!

إذا اعتقد البعض أن هذين الاصطلاحين (الخارجي) و(الداخلي) منعزلان عن بعضهما البعض، هو بالتأكيد واهم.

الحقائق العالمية الجديدة لا تستثني ليبيا أو غيرها من البلدان ولا تجيز لها أن تختار ما تشتهي من اجندة الإصلاح، وتترك ما لا تريد، فالإصلاح متلازم كجناحي الطير بين الداخلي والخارجي، لا لسبب إلا أن الإصلاح الداخلي هو الضمانة الحقيقية للإصلاح الخارجي، وألا فمن يضمن أن (تتغير الظروف) بوجود الأشخاص أنفسهم فيغيرون ما بأنفسهم.

لم أتَبين من حديث سيف الإسلام ما ينبئ عن إصلاح داخلي، بل ما سمعت يدعو إلى التهميش والعزل لفئة (يدفع إليها بعض المال فتخرج من الوطن)!

الحق في الحرية الفردية والإعلامية والفكرية والسياسية هو مطلب تفرضه الحقائق العالمية المستجدة، ويخطئ من يظن أن تنازلات كلية لمطالب من الغرب (التخلص من أسلحة الدمار الشامل) تغني عن إصلاحات جوهرية لمطالب داخلية، لان استمرار قاعدة حكم ضيقة قد تعيد الأمر من جديد أن (تغيرت الظروف) على حد تعبير سيف الإسلام.

التغيير الليبي في السياسة الخارجية ربما هو الجزء الثاني مما حدث ويحدث في العراق كما تراه الاجندة الغربية، وقد رحبت به بشكل كبير لانه جاء في وقت كانت القيادة البريطانية والأميركية في أمس الحاجة إلى رافعة، تقول للجمهور الناخب في بلدانها، هذا بلد عربي آخر قام بتخزين (أسلحة دمار شامل، كان من الممكن أن تهددكم) وقد استطعنا أن نقضي عليها في المهد بالتهديد المقنع، وهذه جبال الأدلة بين أيدينا، ولولا ما حدث في العراق، يذهب التحليل للقول، لما وصلنا إلى هذه النتيجة الباهرة، لذلك يجب أيضا الضغط على (دول أخرى) للحذو حذو ليبيا، وهنا تكمن فوائد الخطوة الليبية للغرب، وهي فوائد سياسية لا تقدر بثمن!

تلك هي اللعبة السياسية، ولكنها لعبة أن وجدها البعض مؤقتة، إلا أن الاجندة الغربية تريدها دائمة لا رجعة فيها، فالتغيير الذي يقوده أحد أبناء الرئيس معمر القذافي، ولم يكن ليستطيع أحد غيره أن يقوده، تحبذ القوى الغربية أن يصل إلى نتيجة مبتغاة في آخر المطاف، بان يكون هناك في ليبيا حكم رشيد شفاف مؤسسي، يقوم على حكم القانون يتساوى فيه المواطنون، يعتمد على الكفاءة، وله استراتيجية واضحة عصرية، ويتبنى آليات مقننه ذات قاعدة شعبية من أهم صفاتها التعددية. فهل تتقدم ليبيا في السير بهذا الاتجاه حتى نهاية الطريق، ذلك يحتاج إلى قدرات اكبر بكثير مما تملك مؤسسة القذافي الخيرية (ويتساءل البعض ترى «خيرتها» من أين مصادرها المالية!) أم أن الصفقة مؤقتة تخدم غرضا سياسيا مؤقتا، وتعود بعده الجماهيرية سيرتها الأولى؟

انه سؤال مفتوح

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 480 - الإثنين 29 ديسمبر 2003م الموافق 05 ذي القعدة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً