العدد 479 - الأحد 28 ديسمبر 2003م الموافق 04 ذي القعدة 1424هـ

هيلموت شميت معلم الألمان الذي بكا عن تحرير الرهائن

سمير عواد comments [at] alwasatnews.com

الرجل لم يتغير على رغم تقدمه في السن وبلوغه سن الـ 85، وسمات الوجه الذي يبدو كلوحة رسم (بورتريه) تؤكد وصف الألمان له بصاحب الأنف العالي، وهو الوصف الذي يوحي في الألمانية بمعنى أن الشخص متعجرف ويعتقد أنه فوق الجميع. إذا انطبق هذا الوصف حقيقة على مستشار ألمانيا الأسبق هيلموت شميت فإن هناك من يعارض هذا الوصف، وهم قلة في ألمانيا، ويتحدثون عن مدى ثقته بنفسه منذ الصغر، من الحضانة إلى المدرسة ثم الجامعة والجيش ثم السياسة. وحين سئل شميت إذا كانت لديه في السابق رغبة بمواصلة العمل السياسي واستعادة منصب المستشارية بعد أن خسره لصالح السياسي المحافظ هيلموت كول، جاء رده مفاجئا: «لقد كنت أكره هذا المنصب لأنه منصب صعب للغاية». وكان شميت، الحاصل على المواطنة الفخرية لمدينة هامبورغ التي ينحدر منها، قد شغل منصب المستشارية مدة ثماني سنوات(1974ــ 1982) على رأس حكومة ائتلافية جمعت حزبه الاشتراكي الديمقراطي والحزب الليبرالي. وفي أكتوبر/ تشرين أول العام 1982 انقلب الليبراليون عليه وانحازوا إلى الاتحاد المسيحي المعارض، وهكذا انهارت حكومة شميت وبدأ عهد المستشار هيلموت كول الذي استمر 16 سنة متواصلة حتى سبتمبر/أيلول العام 1998 بعودة الإشتراكيين إلى السلطة بمؤازرة حزب الخضر.

سرعان ما انسحب شميت بعد انهيار حكومته من العمل السياسي ولم يشغل نفسه بالظهور في المناسبات والحفلات السياسية بل انهمك عدة سنوات في الكتابة وأشرف على تحرير الصحيفة الأسبوعية(دي تسايت) حيث كانت تربطه صداقة متينة مع الناشرة فون دونهوف التي توفيت قبل عام. وتعتبر هذه الصحيفة لسان حال النخبة المثقفة في ألمانيا. استطاع شميت أن يرقّي ألمانيا بعد إذلال الحرب العالمية الثانية وأن يجعلها دولة نافذة ومؤثرة في أوروبا والعالم. واستطاع أن يعقد صلة صداقة متينة مع الرئيس الفرنسي جيسكار ديستان ما أكسب المحور الألماني الفرنسي قوة كثيرا ما كانت مصدر قلق وريبة عند رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر. وكان شميت الزعيم الأوروبي الوحيد الذي يقف بوجه المرأة الحديد. وروج شميت لألمانيا من خلال ثقته العارمة بنفسه وازدهار الصناعة الألمانية في النصف الثاني من السبعينات وصولا إلى الثمانينات .

ويمارس شميت الكتابة ويقع مكتبه بالطبقة السادسة في مبنى مكاتب صحيفة (دي تسايت) وسط هامبورغ. وتسجل مبيعات كتبه أعلى الأرقام، فما زال الألمان يعاملونه كالمعلم والمرشد حتى أن المستشار السابق هيلموت كول كان أحيانا يأخذ برأيه في بعض القضايا الحرجة مثلما فعل مع المستشار الاسبق فيلي برانت أيضا ويشاع أن المستشار الحالي غيرهارد شرودر الذي اعترف أكثر من مرة أن هيلموت شميت مثله الأعلى، يقصد شميت في منزله بهامبورغ للأخذ برأيه بشأن مسائل سياسية مهمة. وتم أول لقاء بين شميت وشرودر حين كان الأخير رئيسا لشباب الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحصل على موعد للقاء شميت. ويتذكر شرودر كيف أنه حين دخل مكتب شميت كان الأخير يجري اتصالات هاتفية من بينها اتصالان مع الزعيم السوفياتي ليونيد بريجينيف والأميركي جيمي كارتر، وكان شميت يصرخ ويتحدث بصوتٍ عالٍ يهز المكان وحين وضع سماعة الهاتف نظر بوجه شرودر وقال: «هؤلاء الحمير يريدون تعليمي أصول السياسة». منذ هذا اللقاء أصبح شميت المثل الأعلى للمستشار الحالي.

ولم يلعب هيلموت شميت دورا مرئيا في تحقيق وحدة ألمانيا التي تمت في العام 1990 لكنه مهد الطريق من خلال سياسة خفض التوتر مع الشرق حين تبنى سياسة الأوست بوليتيك التي وضعها برانت . فقد ركز شميت على استمرارية الاتصالات الألمانية - الألمانية لتسهيل حياة المواطنين الألمان على الجانبين مثل السفر والهجرة. واضطر شميت لاتخاذ قرار صعب في مطلع الثمانينات بطرحه القرار المزدوج الذي نص على زرع صواريخ نووية في ألمانيا للضغط على المعسكر الاشتراكي كي يبدأ بخفض ترسانته النووية، لكنه فاتح صحيفة(زود دويتشه) الصادرة قبل أيام بالقول أنه أخفى عن الصحافيين اتفاقا توصل إليه حين كان وزيرا للدفاع(1969ــ 1970) مع نظيره الأميركي ميلفين لايرد بعدم تحقيق رغبة الولايات المتحدة بزرع ألغام نووية بصورة طوق حول ألمانيا. وقال شميت أنه استطاع إقناع لايرد بأنه بمجرد انفجار أحد هذه الألغام سوف تنطلق من أوروبا حرب نووية. قرار صعب آخر لم يفارق حياة شميت ففي العام 1977 اختطفت جماعة بادر ماينهوف اليسارية المتطرفة رئيس اتحاد أرباب العمل هانز مارتن شلاير وحاولت المقايضة عليه بطلبها من الحكومة الألمانية الإفراج عن معتقلين ينتمون للخلايا الثورية للجيش الأحمر. لكن شميت اختار عدم مقابلة طلب الإرهابيين الألمان وكان يعلم أنه بهذا القرار قد جازف بحياة شلاير الذي وجد بعد وقت مقتولا داخل صندوق سيارة. وقال شميت قبل سنوات أنه وجد صعوبة بالغة وهو يجلس إلى جانب أرملة شلاير خلال حفل تأبين زوجها. في هذا الوقت اختطفت قوة فدائية فلسطينية طائرة تابعة لخطوط اللوفتهانزا من أوروبا إلى مقديشو وانتهت العملية بقيام قوة عسكرية ألمانية خاصة بمداهمة الطائرة وقتل ثلاثة خاطفين وحين أبلغ المفاوض الألماني هانز يورغن شميت على الهاتف أن عملية تحرير الركاب انتهت انفجر شميت باكيا على رغم أنه لم يعرف البكاء في حياته.

ولد هيلموت شميت بعد ستة أسابيع على نهاية الحرب العالمية الأولى ولعب رقم ثمانية دورا في حياته فقد عمل جنديا مدة ثمانية أعوام وشغل منصب مستشار الحكومة الألمانية ثمانية أعوام أيضا. يصف حياته كجندي بأنها الجحيم بعينه ولا شيء أكثر قذارة من الحرب. وقال في مقابلة أجرتها معه صحيفة (زود دويتشه) أن الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش لم يخدم في فيتنام ولو لمس قذارة الحرب لما ركز سياسته على التدخل العسكري تحت شعار الحروب الوقائية.

لم يزر شميت «إسرائيل» وهو في منصب المستشار لكن تشير الإحصاءات إلى أن «إسرائيل» حصلت في عهده على دعم مادي وعسكري كبير ساعدها في صيف العام 1982 على شن حربها في لبنان لإخراج الفصائل الفلسطينية واحتلال جزء كبير من جنوبه إذ أقامت ما أسمته بالحزام الأمني. وحاول شميت أن يحقق بعض التوازن في علاقات ألمانيا مع العالم العربي وكان يحبذ بيع السعودية دبابات ليوبارد لكن القوى المؤيدة لـ «إسرائيل» في حزبه وفي أحزاب المعارضة نجحت في منع تحقيق صفقة البيع. وارتبط شميت بصداقة مع الرئيس المصري الراحل أنور السادات ومن السادات كان شميت يسمع ويصدق ما يقوله الرئيس المصري له عن القادة العرب خصوصا الذين كانوا في ذلك الوقت على خصومة مع مصر بعد توقيعها على اتفاق صلح مع «إسرائيل». وحين سئل شميت مرة عن رأيه بالحرب بين العراق وإيران أجاب قائلا: دعوهما ينهكان بعضهما بعضا فعند ذلك ستتوقف الحرب ويصبح من الأسهل التعامل مع بلدين ضعيفين.

وقد تركت حياة الشقاء التي مر بها شميت في صغره أثرا كبيرا على عمله بالسياسة فحين كان والده يضربه كان يجد الشفق والحنان من قبل صديقته في المدرسة(لوكي) التي تكبره بعامين. كانت تدافع عنه وتضرب الصبية الذين كانوا يريدون معاقبته لأنه كان حاد اللسان. ولوكي اليوم أهم شخص في حياة شميت وتجلس إلى جانبه لتقول بصوت عال في أذنه اليسرى ماذا ينبغي عليه أن يسمعه. يقول إنه أصيب بالمرض نفسه الذي أصيب به الموسيقار بيتهوفن فحين يجلس شميت ليلعب آلة البيانو يعرف ماذا يعزف لكنه لا يسمع الموسيقى التي يعزفها... انه ثمن التقدم بالعمر كما قال شميت وراح ينظر بعمق في عيون رفيقة دربه لوكي التي تشاركه حياته منذ 75 عاما

العدد 479 - الأحد 28 ديسمبر 2003م الموافق 04 ذي القعدة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً