ابتدع الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف نظرية البروستريكا بديلا للاشتراكية على أمل إصلاح الأوضاع التي كان يعيشها السوفيات في ظل الحكومات التي سبقته. لكن الحال انقلب من سيئ إلى أسوأ وتفتت الاتحاد السوفياتي الذي كان يعد القوة العظمى الثانية في العالم إلى دويلات، وصارت روسيا هي البديل لتلك المنظومة لكن من دون التمتع بذلك الجبروت والسمعة الدولية والنفوذ الذي كانت تحظى به.
واليوم فاجأ الزعيم الليبي معمر القذافي العالم بإعلانه تحولات كبيرة في نظام الحكم الذي اختطه منذ توليه السلطة في سبتمبر/ أيلول 1969 على نهج الكتاب الأخضر الذي يجمع بين النظرية الماركسية والقومية العربية، كما أعلن تخلي بلاده طواعية عن أسلحة الدمار الشامل. فهل يصير الوضع في الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى كما صار في الاتحاد السوفياتي السابق أم ينجح القذافي في الاستفادة من الأخطاء التي وقع فيها غورباتشوف فينتشل ليبيا التي يبلغ عدد سكانها 5,690,727 نسمة إلى بر الأمان ويعيدها قوية صامدة إلى المجتمع الدولي.
عندما تولى القذافي الذي تربى على أفكار الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، السلطة، انطلق في الدعوة إلى الوحدة العربية التي عمل لها بكل ما أوتي من قوة. لكنه أعلن بعد صراع مرير مع الغرب والعقوبات الدولية بسبب أزمة لوكيربي وتداعياتها انفصاله النهائي عن العرب، الذين لم يساندوه في محنته كما فعلت البلدان الافريقية. وقال إن «القومية والوحدة العربية عفا عليهما الزمن».
وفي السنوات الأخيرة لم يتوقف القذافي عن التشكيك في المثل العليا التي كان يناضل من أجلها في شبابه. وإذا كان من الصحيح انه يشتهر بانتقاداته اللاذعة إلا أن العبارات التي صدرت على لسانه أخيرا كانت بمثابة طلاق بائن. وقال أيضا «يا عرب اعتبرونا مثل ساو تومي وغينيا كوناكري... أعطيناكم الأموال والسلاح والدم وتعبنا معكم من دون فائدة». واتهم العرب بأنهم «كلهم أصدقاء لأميركا وإسرائيل»... و«ليبيا لم تعترف ولن تعترف بإسرائيل إلى يوم القيامة».
أعلن القذافي «يأسه من العرب وان ليبيا ستكون في النهاية مع الأمة الافريقية والاتحاد الإفريقي الذي صار وريثا لمنظمة الوحدة الافريقية لتصبح قوية بهذا الاتحاد مثل القارة الأميركية وأوروبا». كما تتزعم طرابلس حاليا تجمع الساحل والصحراء الذي يضم الكثير من الدول الافريقية شمال الصحراء.
وأثار القذافي حنق الولايات المتحدة وبريطانيا عندما طرد قواتهما التي كانت تتمركز في ليبيا وأمم احتياطات النفط التي كانت مملوكة للأجانب. وقطعت واشنطن علاقاتها التجارية مع ليبيا بعد غزوها تشاد في العام 1973. كما قطعت بريطانيا علاقاتها الدبلوماسية مع الجماهيرية بعد إطلاق حراس الأمن في مقر السفارة الليبية في لندن النار على متظاهرين أمامها فقتلوا شرطية بريطانية.
وبعد أن رفض القذافي تسليم ليبيين متهمين بتفجير طائرة الركاب الأميركية (بان أميركان) فوق بلدة لوكيربي العام 1988، فرضت عقوبات على الجماهيرية شملت حظرا على الطيران ومبيعات الأسلحة.
وبعد ذلك بدأ القذافي يروج لشخصه بوصفه زعيما افريقيا لا رئيسا لدولة عربية. وعند ذاك بدأ يكون لرئيس جنوب افريقيا السابق المناضل نيلسون مانديلا تأثير كبير على الزعيم الليبي، ولعب دورا كبيرا في إقناعه ببدء التفاوض بشأن قضية لوكيربي. والملاحظ هنا التأثير الافريقي في قرار ليبيا التخلي عن أسلحة الدمار، فقبل عشر سنوات تخلت جنوب افريقيا عن برامج تسليح سرية طواعية ونصحت الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين بأن يحذو حذوها قبل الحرب الأخيرة على بلاده.
في الأيام القليلة الماضية أعلنت طرابلس بشكل مفاجئ تخليها عن أسلحة الدمار الشامل طواعية، وهي خطوة من الممكن أن تؤدي إلى رفع العقوبات الأميركية عن ليبيا وتشجع شركات النفط الأميركية على العودة إليها. وتمثل هذه الخطوة أيضا تغيرا من النقيض للنقيض بالنسبة إلى القذافي الذي ظل يحكم منذ 34 عاما. ولم يكتف القذافي بذلك بل دعا سورية وكوريا الشمالية إلى أن تحذوا حذوه.
التحذيرات الأميركية من أسلحة الدمار غالبا ما تطول الدول الإسلامية. وقد حذرت «سي آي ايه» في تقرير سلمته إلى الكونغرس أخيرا أن ليبيا وسورية وربما السودان تحاول الحصول على أسلحة للدمار الشامل أو تملك القدرة على تطويرها. ورأت الوكالة أن زعيم منظمة «القاعدة» أسامة بن لادن يملك برنامجا للأبحاث عن أسلحة بيولوجية متطورا أكثر مما اكتشف في السابق.
وكشفت وثيقة صادرة في العام 2001 النقاب عن أن ليبيا لا تمتلك سوى ترسانة عسكرية متواضعة اللهم إلا من بعض الشكوك بشأن إمكان امتلاكها كميات من الأسلحة الكيماوية. وكشفت الوثيقة - الصادرة عن «يوسنيك»، وهو جهاز يتكون من 12 عضوا ويعمل بشكل مستقل عن أجهزة المخابرات الأميركية ويتولى مهمة تقدير جميع التهديدات التي تتعرض لها الولايات المتحدة في مجال أسلحة الدمار حتى العام 2015 - عن الاستثناء الوحيد في ترسانة ليبيا يتعلق بالأسلحة الكيماوية، فعلى رغم أن ليبيا أوقفت برنامجها في مجال الأسلحة الكيماوية في نهاية 1999 فإنها لا تزال تمتلك مئات الأطنان من الأسلحة الكيماوية وخصوصا غاز الخردل وغاز الأعصاب.
هذه الاسلحة كانت ذريعة لضرب حركة طالبان في أفغانستان وخلع الرئيس العراقي السابق صدام حسين من منصبه، فهل تكون حجة لتصحيح الأوضاع وتطبيع الأوضاع مع ليبيا، ما يفتح الباب أمام الاستثمارات الغربية لتعود إلى ذلك البلد الذي عاني كثيرا من العقوبات على شاكلة العراق.
العراق الآن يخضع للاحتلال ويتداعى العالم لنهب ثرواته فيما يتفرج العرب، وليبيا خضعت للحصار وكفرت بالعروبة والجامعة العربية وها هي الآن تسعى بشكل انفرادي لتفادي المصير المحزن الذي آل إليه العراق. فهل تنجح بروستريكا القدافي أم ستقع ليبيا فريسة لجشع الولايات المتحدة والغرب؟
إقرأ أيضا لـ "ابراهيم خالد"العدد 478 - السبت 27 ديسمبر 2003م الموافق 03 ذي القعدة 1424هـ