إن من يستقرئ التاريخ على امتداد ساحته المكانية والزمانية يجد أن الله قد حبا الإنسانية - بين حين وآخر - برجال دُونت أسماؤهم بحروف من نور، لمواقفهم المشرِّفة التي لا يمحوها الزمن.
فحين يُذكر الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز - مثلا - يُقرن بالترحم عليه والترضي عنه لمواقفه التي أبرزها وفي قمتها رفع الشتم والسب عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، تلك السنَّة السوداء، بل البدعة النكراء التي ابتدعها الأمويون بغضا وحسدا، والتي استمرت عشرات السنين حتى جاء من أزالها وجعل مكانها «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون» (النحل: 90).
أما معاوية الثاني (ابن يزيد) فكفاه فخرا أنه تنازل عن الخلافة، لعلمه ويقينه أنها مغتصبة من أهلها الشرعيين وهم (أهل البيت عليهم السلام)، ما دعا أمه إلى أن تخاطبه غاضبة «ليتك كنت حيضة» فأجابها - غير مكترث - «ليتني كنت حيضة»، وبهذا دخل التاريخ من «أنصع وأوسع» الأبواب، ودخل غيره من «أوسخ» الأبواب. هذان نموذجان (رائعان)...
وهناك نماذج أخرى (مروِّعة) سودت وجه التاريخ وصبغته بالدماء والأشلاء، وفي مقدمتها (يزيد الأموي) الذي ختم تاريخه البشع بقتل ابن رسول الله (ص) الحسين بن فاطمة عليهما السلام. وكذلك (الحجاج الثقفي) الذي فعل ما فعل بالعراقيين الأباة الذين خاطبهم بصلافة «إني أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها». وإذا كان قد برز من يدافع عن (يزيد الأموي) بقوله: إنه الخليفة المفترَى عليه، ومن قال إنه أمير المؤمنين صاحب الفضائل، وغير ذلك من عبارات التأييد لأفعاله وجرائمه، فقد برز في عصرنا وفي بلدنا من تطوع للدفاع عن (يزيد التكريتي) الذي ملأت جرائمه الآفاق سواء داخل العراق الجريح أو خارجه، ويكفيه عارا ما فعله بالإمام العظيم السيد محمد باقر الصدر وأخته الطاهرة الزكية بنت الهدى (رضي الله عنهما)، ويكفي هذا (الطاغية) ما اقترفه بحق شعبه وجيرانه من سفك الدماء وانتهاك الأعراض وغير ذلك من الجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية.
كل هذا ليس غريبا على (يزيد التكريتي)... (يزيد العصر)، فعنصره الخبيث يدفعه إلى أن يفعل أكثر من ذلك دونما خوف أو خجل أو ندم.
ولكن الغريب حقا، والمؤلم حقا أن يتصدى ويتطوع للدفاع عن هذا المجرم أناس من هذا البلد الطيب الذي اكتوى بنار (يزيد العراق) حين أعدم أحد عشر بريئا من طلاب العلم البحرانيين... هؤلاء المتطوعون المنتمون إلى عائلات معروفة ذات سمعة طيبة لا أظنها راضية بأن تشوَّه وتلوَّث من قبل أحد أبنائها، مدعين أن هذا الوحش بريء من جرائمه بنسبة تسعين في المئة (وهي نسبة قليلة!!) وا أسفاه.
لماذا لم يتطوع هؤلاء وهم يمتلكون هذا الفيض من المشاعر الإنسانية، لماذا لم يتطوعوا للدفاع عن المغلوبين والمقهورين هنا وهناك من دنيا الإسلام العريضة؟
المطلوب شيء من الحياء من الله ومن ذوي الشهداء والأيتام والأرامل والمشرّدين الذين هم ضحايا لرعونة وحماقة ووحشية هذا الذئب الغادر، والوحش الكاسر، الذي ليس له شبيه في الماضي والحاضر.
أقولها صريحة لهؤلاء (المساكين) المتطوعين للدفاع عن يزيد عصرنا، يزيد التكريتي: اتقوا الله في أنفسكم وأولادكم، فلذات أكبادكم، وأعيدوا النظر في مواقفكم، وسخروا طاقاتكم ومؤهلاتكم في خدمة وطنكم والدفاع عن الأبرياء أينما كانوا، وتذكروا أن الله بالمرصاد للظلمة وأعوان الظلمة بالقول والفعل والموقف، «وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون» (الشعراء: 227)
إقرأ أيضا لـ "علي الشرقي"العدد 478 - السبت 27 ديسمبر 2003م الموافق 03 ذي القعدة 1424هـ