العدد 477 - الجمعة 26 ديسمبر 2003م الموافق 02 ذي القعدة 1424هـ

الجمهورية الإسلامية وتوازنات الحال العراقية

بعد اعتراف طهران بمجلس الحكم

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

اتّسمت السياسة الإيرانية تجاه العراق خلال العقد الماضي بنوعٍ من التقارب الحذر فرضته رواسب التنافر القومي الحاد المستحكم والتباين الآيديولوجي بين النظامين السياسيين ثم زادته أُوارا جروح حرب الثماني سنوات التي أصّلت بقوة أدبيات التنابذ والريبة إلى منتهاه على رغم أن الأقدار شاءت أن تكون الدولتان متجاورتين لا يفصلهما سوى تاريخ بائس مُثخن بالجروح وذاكرة قاتمة منذ أيام الملِكَيْن الشقيقين إيرج وتور وحتى قُبيْل سقوط النظام البعثي في العراق مطلع شهر إبريل/ نيسان الماضي.

ففي حرب الخليج الثانية (1991) والثالثة (2003) حيّدت إيران موقفها السياسي والعسكري لكي لا تكون راية في معارك الآخرين، إلى أن غدا العراق بجوارها بطنا رخوا لا يقوى على شيء والولايات المتحدة مُصابة في كبريائها العسكري وعظمتها (وحتى في رشدها) جرّاء الهجمات التي تُشن عليها في أرض لم تعرف سوى الحِراب والمقاتلة منذ قرون، وبالتالي حصول إيران (وبقدرة قادر) على مطلقية عسكرية وسياسية في المنطقة أهّلها لأن تلعب دورا محوريا في مصائر هذا الإقليم الجريح منتهزة فرصة غياب أي دور فاعِل لدول الخليج في حسم الكثير من الملفات الساخنة، وهو ما أكدته زيارة وزير الخارجية الأردني مروان المعشر لطهران أخيرا حين ناقش مع المسئولين هناك إمكان أن تقوم طهران بلعب دور ما لحماية حدود الأردن الشرقية الذي تضرر كثيرا من الأزمة العراقية اقتصاديا، هذا على رغم أن الوجود العسكري الأميركي في العراق قد قرّب إيران للمواجهة بصورة فاقعة وجعلها أكثر من أي وقت آخر عرضة للإبتزاز المباشر بعد أن قامت واشنطن (بالإضافة إلى وجودها المباشر هناك) بِتَبْيِئَة المنطقة وفق منظور استراتيجيتها فضمَّت إيران لمحور الشر بُغية تحييدها تماما ولاكت الرياض بهجمة إعلامية شرسة صوَّرتها بأنها منبعا لوجستيا للحركات المتطرفة في العالم وساحة رحْبَة لنمو الفكر الأصولي المُتطرف.

وفي ظل وضوح تلك الخريطة الجديدة بعد سقوط نظام صدام يتبيّن الآتي:

(1) إن طهران تعرف جيدا أن حرب الإرهاب الذي دفع العالم إليها الرئيس بوش عقب حوادث 11 سبتمبر/ ايلول مازالت تُشكل نزيفا ماديا ومعنويا للدولة الأميركية من دون أن تجني واشنطن نتائج فعلية وملموسة وسريعة على الأرض توازي جرح البرجين المنهارين في نيويورك، فتنظيم «القاعدة» لايزال منتشرا في أكثر من ستين دولة وأتباعه بالآلاف وإن كان بخلايا نائمة، وبالتالي فإن تحقيق نصر يُعتدّ به في العراق سيعوّض ولو ماديا النكسة الأميركية في حربها على الإرهاب ويُعيد رسم الخريطة السياسية في المنطقة على أسس أميركية براجماتية جديدة لها حساباتها وتكتيكاتها، كما أنه سيجعل بين أصابعها أزرار أهم مخزون نفطي بعد السعودية (يوازي احتياطي العراق من النفط البالغ 115 مليار برميل احتياطي كل من الولايات المتحدة وكندا والمكسيك وأوروبا الغربية واستراليا ونيوزلندا والصين وكل آسيا غير الشرق أوسطية) وفي سبيل تحقيق ذلك ستضطر واشنطن للجوء إلى دول الجوار ومنها إيران للتنسيق معها في إعادة ترتيب الأوضاع هناك، وهو اضطرار يفرضه حجم النفوذ التي تملكه الدول المجاورة النابع من عوامل جغرافية وإنسانية منذ آلاف السنين، وأمام ذلك الاضطرار من واشنطن للجوء لدول الجوار (ومنها إيران) تُرتب الأخيرة أولوياتها الاستراتيجية بما يتناسب وخططها وتحالفاتها المحلية والخارجية.

(2) تحاول طهران استغلال التنافر العراقي التركي المتصاعد نتيجة السياسات التركية السابقة حين كانت تجتاح مناطق الشمال العراقي باستمرار بحجة ملاحقة فلول حزب العمّال الوطني الكردستاني ثم عزمها بُعيْد سقوط نظام صدام حسين إرسال قوات تركية إلى العراق بجانب القوات الأميركية والبريطانية، وقبلها التلويح (من قِبَل بعض السياسيين على الأقل) بإمكان إعادة تحريك مطالباتها التاريخية في العراق، بالعودة إلى اتفاق 5 يونيو/ حزيران 1926 بينها وبين بريطانيا والعراق والتي قامت على محاصرة العـراق بنسبة 10 في المئة من نفطه لتركيا مقابل إنهاء الأخيرة لمطالبها التاريخية بضم أجزاء من شمال العراق كالموصل إليها ومعاودة النظر بالتالي بما يتيحه ذلك الاتفاق من حقوق تركية بنفط العراق وهي الحقوق التي حصلت فيها تركيا بين عامي 1926 و1955 على حصة ثلاثة عشر عاما، ثم أعادت النص على هذه الحصة في الموازنة التركية بعد قيام ثورة 14 يوليو/ تموز 1958 وعادت إلى حذفها من تلك الموازنة في العام 1986 على خلفية تحسّن علاقاتها مع بغداد وأنهت مطالبتها الفعلية بها من غير أن تغض النظر تماما على المطالبة القانونية، وعليه فإن إيران (بالإضافة إلى اقتناص ذلك التنابذ العراقي التركي) تنظر إلى تلك المطالبات بريبة كبيرة لأنها ستفتح الباب من جديد للحديث عن إحداث توازنات جغرافية جديدة في المنطقة وهو ما لا تقبله طهران البتَّة.

كما أن إيران تدرك أيضا أن جزءا من ذلك التنافر مردّه تعاون أنقرة المفرط مع تل أبيب، وخصوصا في ظل وجود أنباء تتردد عن مساعي إسرائيلية حثيثة للعب دور مُؤثر في ملفات اقتصادية وثقافية وقانونية عراقية وذلك بالتدثر بمكاتب استشارية أو شركات إعمار، وهو ما يزيد من مخاوف الأحزاب الإسلامية والقومية واليسارية العراقية النشِطة.

(3) أن المعارضة العراقية التي عاشت في إيران طوال فترة النضال انقسمت إلى سماطين الأول كان يرى ضرورة التماهي مع النموذج الإيراني من منطلق مرئيات دينية وشرعية تُحتّم ذلك على غرار تجربة حزب الله في لبنان وكذا لضمان حصولهم على دعم إيراني يوازي ترتيبات المنطقة التي ستلعب فيها دول إقليمية ودولية كبرى، وكان من مؤيدي هذا الخط رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق الشهيد محمد باقر الحكيم وبعض قيادات حزب الدعوة الكاريزمية المستقيلة من الصف الأول كآية الله كاظم الحائري وآية الله محمود الهاشمي والشيخ الآصفي والشيخ الكَوراني، أما الطرف الآخر فآثر أن يجعل بينه وبين النظام الإسلامي مسافة تَقِيْه من وصاية العباءة الإيرانية لأية مشروعات سياسية، أو لربما كان ذلك مرجعه إلى تدخل العنصر القومي الذي هو مسكون أصلا لدى الطرفين تجاه بعضهما!

وكانت الجمهورية الإسلامية في مسيرة تعاطيها مع أطياف المعارضة العراقية التي كانت تسكن الأراضي الإيرانية (أو على اتصال بها) قد كسبت فعلا شريحة واسعة منهم وخصوصا المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق الذي قامت بالإغداق عليه عسكريا وماديا واستخبارايا وقدمت له تسهيلات دبلوماسية وفتحت له حدودها الشمالية الشرقية مع العراق لممارسة نشاطه العسكري ضد النظام البعثي طيلة الثلاثة والعشرين سنة الماضية، حتى صار المجلس من أقوى الأحزاب العراقية المعارضة استطاع أن يُكوّن له مريدين كُثُر في العراق وخارجه كما أنه استطاع تمويل مشروعاتها السياسية بوفرة من المال والسلاح قلّ نظيرها لدى باقي الأحزاب الإسلامية العراقية التي اختطّت مسار المسافة الفاصلة بينها وبين طهران.

والأهم من كل ذلك أنه وبعد سقوط نظام صدام في 9 ابريل الماضي ولتثبيت دور المجلس الأعلى (حليفها الاستراتيجي) وإلى حد ما بعض قيادات حزب الدعوة الإسلامية فقد آثرت طهران أن تُقدم مساعداتها العينية والمادية عن طريق أولئك الحلفاء في مجلس الحكم كالتسهيلات المصرفية والائتمانية الأخيرة (300 مليون دولار) وعرض استخدام الموانئ الإيرانية لتصدير الغاز والنفط العراقي وبناء شبكة الكهرباء في المناطق الجنوبية وتأهيل المنشآت الرياضية وطباعة مئات الآلاف من الكتب الدراسية، كما انتهزت فرصة ترأس السيدعبدالعزيز الحكيم لمجلس الحكم في دورته الحالية لتزيد من ذلك النهج، وما ضمن لها في المقابل تحريك ملف جماعة مجاهدي خلق الإرهابية الذي قرر مجلس الحكم طردها من العراق وهو اقتراح مرّره الحكيم في المجلس، والذي أكّد عليه مرة أخرى خلال زيارته لدمشق.

(4) أدركت طهران بأن منطقة الشرق الأوسط قد شهدت في العشرين سنة الأخيرة استقطابا حادا بين القوى الإسلامية والقوى القومية في جانب وبين العقل العروبي والقِطري في جانب آخر، وهو ما فتح المجال لصراع ومقاتلة فكرية وخلافات سياسية ألقت بظلالها السلبية على شكل المنطقة وتوازناتها الجديدة، أهمها أن الأنظمة العربية صارت في حال خبوء قطري، وبات من اللازم البحث عن إطار إقليمي مُطعّم بمفاهيم جديدة ذات طابع إسلامي يمكن أن يكون بديلا عن الخطاب القومي وذلك من أجل بلورة كيان سياسي أوسع يمتاز بسعة توازنية واستراتيجة أكبر قد يُساعد مُستقبلا في تحقيق ما تصبو إليه طهران تجاه القضية الفلسطينية، لذلك فإن الجمهورية الإسلامية تحاول (وعن طريق اعتمادها سياسة سحب بؤر التوتر في علاقاتها الخارجية) أن تُمرر مشروعات إقليمية لا تتعارض مع مخاوف الدول العربية التي تخشى من سحب البساط من تحت أقدامها (ومنها العراق) ولا تخالف خياراتها المطروحة عن طريق محاولة تأكيد هوية العراق الإسلامية بالإصرار على صوغ الدستور العراقي بما يتوافق وهوية العراق الدينية والتاريخية، وهو ما أكده رئيس المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية آية الله محمد علي التسخيري في كلمة ألقاها خلال افتتاح معرض ثقافي في النجف الأشرف حين قال «المرجعية الشيعية تعرف مسئولياتها، إن أمامكم مرحلة كتابة الدستور الإسلامي، والمرجعية الرشيدة والحوزة العلمية في هذا البلد تعي حساسية هذه المرحلة».

(5) تحاول الجمهورية الإسلامية التعامل مع الواقع الجديد في الساحة العراقية بسياسة ذكية ومرنة تقيها من شرور الوجود الأميركي المرابط بجوارها ومحاولة تحييد أية حكومة قد تأتي من عباءة البيت الأبيض وفي الوقت نفسه لا تكون بمعزل عن أية ترتيبات قد تُتخذ من قِبَل أطراف دولية وإقليمية في مستقبل العراق كما فعلت ذلك تحديدا مع القضية الأفغانية عندما سارعت بترتيب خياراتها وتثبيت مصالحها هناك مُستفيدة من علاقاتها المتينة التي جسّرتها مع بعض القوى الأفغانية الفاعلة والتي تسلّمت فيما بعد سقوط حكم حركة طالبان عددا من الوزارات السيادية، فسارعت بالاعتراف بمجلس الحكم ودعوة أعضائه لزيارة طهران، وهو اعتراف جاء أبكر من جامعة الدول العربية وأن كان بشكل مكتوم، وخصوصا بعد أن ضمنت توجهات أعضائه ومواقفهم تجاهها، وهو ما أكده صراحة الشهيد محمد باقر الحكيم الذي قال في تصريح نشرته صحيفة «العدالة» الناطقة باسم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية «إن الجمهورية الإسلامية الإيرانية أول دولة تعاملت رسميا مع مجلس الحكم».

وكان خاتمي وأثناء لقاءٍ جَمَعه بزعيم الاتحاد الوطني الكردستاني جلال طالباني قد قال صـراحة «نعترف بمجلس الحكم العراقي ونعتقد أن بإمكانه - بمؤازرة الشعب العراقي - إدارة شئون البلاد واتخاذ الخطوات الضرورية لاستعادة استقلالها»، وخصوصا أن تعليقات خاتمي جاءت في أعقاب إعلان واشنطن عن نيتها نقل السلطة إلى العراقيين في يونيو 2004 وتشكيل حكومة منتخبة قبل نهاية العام 2005.

وأمام هذه الخريطة السياسية المعقدة والعلاقات المتداخلة في المنطقة يبرز الدور الإيراني جليا في أية تسويات قد تتطلبها الأجواء الجيوبوليتيكية الحالية والمستقبلية، ومن يُريد غير ذلك فعليه أن يتحمّل حتى يأذن الله في أمره

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 477 - الجمعة 26 ديسمبر 2003م الموافق 02 ذي القعدة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً