العدد 476 - الخميس 25 ديسمبر 2003م الموافق 01 ذي القعدة 1424هـ

فرق المعتزلة... إصلاح الدولة وحركة تنوير إسلامية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

كانت المعتزلة على موعد مع القدر. فالقدر لا يرحم. إنه «يمهل ولا يهمل» حتى لو طال الزمن. فالزمن تجاوز المعتزلة وأفكارها وفرقها، ولكن الأفكار كعادتها استمرت إلى فترة بعد فوات الأوان. وهذا ما حصل مع المعتزلة. فهي انتهت سياسيا واستمرت فرقها تعمل وتنشر أفكارها التي لم تعد تشكل قوة جاذبة. فالأجيال تغيرت وكذلك أحوال الزمان وحالاته ورجاله. فبعد النصف الثاني من القرن الثالث للهجرة ستدخل الخلافة العباسية طورا جديدا حاملا معه تناقضاته الخاصة. وأهم سمات ذاك الطور استقرار الدولة المركزية، نشوء حركة تنوير إسلامية (فقه وحديث)، بروز حركات تمرد في أطراف الخلافة، ظهور دعوات ودويلات معادية لبني العباس وغيرها من ثورات عفوية وفوضوية امتدت وانتشرت على مساحات واسعة من خراج الخلافة.

هذه السمات الخاصة كانت شبه مشتركة على امتداد ولايات الخلفاء من المعتمد إلى المعتضد وصولا إلى المكتفي وما بعده. فالمعتضد ورث عمه المعتمد في سنة 279هـ (892م) وكان شديد التعصب إذ منع «الوراقين» من بيع كتب الفلاسفة. وقيل عنه إنه كان ينفعل بسرعة ويغضب من الكبيرة والصغيرة، الأمر الذي دفعه مرارا إلى ارتكاب أعمال اتصفت بالطيش. فهو مثلا قتل أحمد بن الطيب لخلاف وقع معه على العقيدة فظن المعتضد أن ابن الطيب كان يدعوه إلى الكفر والإلحاد.

بَطْشُ المعتضد مضافا إليه قوة عزيمته عززا هيبة الدولة فخافه الناس، و«سكنت الفتن» حين أسقط «المكوس» ونشر العدل. وسمّي بالسفاح الثاني نسبة إلى الأول (أبوالعباس السفاح) لأنه «جدد ملك بني العباس» بعد أن اضطربت الخلافة منذ قتل المتوكل كما يذكر السيوطي عنه (تاريخ الخلفاء ص 369).

أهم ما فعله المعتضد هو تثبيت هيبة مركز الدولة فنجح في ضبط أجهزتها وإعادة تنظيم مؤسساتها، وهذا ما ساعده على متابعة أحوال الخلافة في دول الأطراف فوقعت المعارك بين الجيش العباسي وقوات المهدي في المغرب حين دخل الأخير مدينة القيروان في تونس في سنة 280هـ (893م) كذلك جدد الفتوحات في بلاد الروم (تركيا) وطبرستان. وليضمن ولاء مصر تزوج ابنة ابن أحمد بن طولون في سنة 282هـ.

إلا أن نجاحات المعتضد في تثبيت المركز والعمل على استعادة مواقع الدولة في الأطراف لم تمنع انتشار الحركة القرمطية التي استردت حيويتها وظهرت مجددا في البحرين بقيادة أبوسعيد القرمطي في سنة 286هـ (899م). فمنذ تلك السنة ستقوى شوكة القرامطة وستشن هجمات متواصلة على مخافر قوات الخليفة وتغير على البصرة ونواحيها وتهزم جيش المعتضد مرات، وفي الكثير من المواقع وخصوصا في أطراف الجزيرة العربية وحواضرها.

استمر حكم المعتضد أكثر من عشر سنوات وحين توفي بويع الخليفة المكتفي في سنة 289هـ (901م). ويقول السيوطي في تاريخه إنه سار «سيرة جميلة، فأحبه الناس ودعوا له» (ص 376).

في أيام المكتفي اشتد عود القرامطة فخرج عليه يحيى بن زكرويه القرمطي واستمر معه القتال إلى أن قتل سنة 290هـ. وخلفه ثلاثة على رئاسة القرامطة، الأول شقيقه يدعى الحسين (أبوشامة)، والثاني ابن عمه (عيسى بن مهرويه)، والثالث وهو غلام لقب نفسه «المطوق بالنور» وتسمى أيضا بأمير المؤمنين المهدي. والأخير هاجم الشام وفرض على الناس الدعاء له على المنابر. وانتهى أمر الثلاثة بمقتلهم في سنة 291هـ (903م). إلا أن أمر القرامطة لم ينتهِ إذ سيبقى في البحرين إلى فترة طويلة ستشهد خلالها الخلافة الكثير من المواجهات والاضطرابات.

أما المكتفي الذي عرف عنه التقوى وحسن السيرة وحرصه على المال العام معطوفا عليها شجاعته وتجديده للفتوحات فإنه سيستمر في تثبيت دعائم الدولة وتحصينها بعد أن اشتدت الانقسامات عنها في الأطراف وتحديدا في بلاد المغرب والجزيرة العربية.

توفي المكتفي في سنة 295هـ (907م) وهي السنة التي بويع فيها لشقيقه المقتدر (كان عمره 13 سنة وحكم 25 سنة متواصلة) وهي أيضا السنة التي يقال إن الجبّائي (الأب) شيخ شيوخ المعتزلة في عصره ومجدد فكرها توفي فيها لتنقلب بعده عليها الأيام والحالات.

شكل الجبّائي (محمد بن الوهاب بن سلام) ظاهرة فريدة من نوعها فهو نتاج «موات» المعتزلة وفي الآن أسهم في تجديد شرايينها من خلال تأثيره على قطاع محدود من المريدين. ومن هؤلاء سيخرج أبوالحسن الأشعري على أستاذه ويعلن انشقاقه عن المعتزلة ليس كفرقة جديدة كما كان يحصل وإنما كقوة جديدة في علم الكلام وهو أمر ستكون له انعكاساته العميقة على نهايات المعتزلة من جهة وتطور أصول الفقه والحديث من جهة أخرى.

ظاهرة الجبّائي معقدة وغريبة من نوعها. فابن النديم يذكر أنه ولد في سنة 235 هجرية (849م) وأنه كان من معتزلة البصرة وانتهت إليه رئاسة البصريين بعد خراب المدينة وموت زعيم المعتزلة في أيامه الشحّام. فابن النديم في «الفهرست» يذكر أن الجبّائي أخذ عن الشحّام، وصار إلى بغداد بعد خراب البصرة وحضر هناك مجالس ما تبقى من المعتزلة (ص 218). ويقول ابن النديم إن الجبّائي تأثر أيضا خلال فترة وجوده في البصرة بالباهلي (الباهلية) وهو محمد بن عمر بن سعيد البصري (أبوعمر) وهو من باهلة وولد في البصرة وأجاد صناعة الكلام على مذهب معتزلة البصرة. وكان الباهلي قاضيا يحضر مجلسه المتكلمون ومن جملتهم الجبّائي الأب (أبوعلي). وترك الباهلي الكثير من الكتب أهمها «إعجاز القرآن»، و«الأصول في التوحيد».

ابن النديم يعتبر الباهلي أستاذا للجبّائي إلى جانب الشحّام ومنهما أخذ الكلام على مذهب البصريين ونقله معه إلى بغداد. وهناك التقى أحد شيوخ المعتزلة ويدعى عبّاد بن سلمان بن علي (أبوسهل). والأخير أيضا من أهل البصرة ومن أصحاب هشام بن عمرو.

خالف عباد (توفي 250 هجرية) الذي عُرفت فرقته بالسلمانية المعتزلة في أشياء واختصّ بأشياء أخرى اخترعها لنفسه كما يقول ابن النديم في الفهرست (ص 215). وعاصره الجبّائي الاب وأخذ عنه في شبابه ووصفه بالحذق في الكلام «لولا جنونه». وعلى رغم جنونه ترك عبّاد بعض الكتب أهمها: «الإنكار أن يخلق الناس أفعالهم»، و«إثبات الجزء الذي لا يتجزأ».

عاصر الجبّائي (الأب) الكثير من المشاهير الأعلام ونافسه على زعامة المعتزلة أبوالحسين عبدالرحيم بن محمد بن عثمان الخياط. فالخياط كان على مذهب معتزلة بغداد وشكل فرقة عُرفت باسمه (الخياطية) واشتهر أصحابه بأنهم قالوا بالقدر وتسمية المعدوم شيئا (التعريفات، ص 137). وأهمية الخياط أنه كان من أصحاب جعفر بن مبشر وخالف سائر المعتزلة في مسألة المعدوم وسميت فرقته بالمعدومية لإفراط أصحابها في وصف المعدوم بأكثر أوصاف الموجودات.

كان الخياط مفكرا كبيرا لا يقل أهمية عن الجبّائي (الأب)، إلا أنه اختلف معه حين ردّ عليه الجبّائي ونقض قوله في المعدوم فوقف معه الكعبي (البلخي) في حين وقف ابن الجبّائي أبوهاشم (الجبّائي الابن) مع والده، فاختلط حابل هذا بنابل ذاك وخصوصا حين اختلف لاحقا الابن مع الأب وردّ عليه في الكثير من القضايا الخلافية.

تشير هذه الخلافات على التفصيلات و«وتفصيل التفاصيل» إلى وجود أزمة فكرية حقيقية ضربت بنية تفكير شيوخ المعتزلة حين وصلت فرقها إلى تكرار نفسها واستنفدت وظيفتها ودورها ولم يعد عندها الشيء الجديد لقوله. فالخياط مثلا ردّ على كتاب ابن الراوندي عن «فضيحة المعتزلة» بكتاب «الانتصار»، وهو لم يضف الكثير على ما سبق وقاله غيره عن ابن الراوندي (الملحد). والجبّائي (الأب) كان بدوره على موعد آخر مع الأشعري الذي وجه إليه ضربة من داخل فرقته أدت إلى اهتزاز موقعه في فترة شهدت فيها الخلافة حركة إصلاحية عاصرت نهضة تنويرية كبرى في الفكر الإسلامي

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 476 - الخميس 25 ديسمبر 2003م الموافق 01 ذي القعدة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً