إثر مشادة ساخنة بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق شمعون بيريز، غادر طيب رجب أردوغان منصة الحوار الذي جمعته مع بيريز والأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، التي كان يديرها ديفيد إجناتيوس من صحيفة »واشنطن بوست»، معبرا عن استيائه من السلوك المتحيز الذي أبداه هذا الأخير في إدارة الحوار.
بعدها تناقلت مؤسسات الإعلام تلك الجلسة وذيولها، كاشفة عن، بالإضافة إلى ما لاقاه أردوغان من حفاوة وتكريم من لدن الجماهير التركية التي احتشدت في ساعة متأخرة من الليل، للتعبير عن تعاطفها مع رئيس وزرائها، تعاطفا منقطع النظير من العرب، حكومات وشعوب على حد سواء، عكست فيما عكست عن موجة تأييد عفوية وتلقائية لما قام به أردوغان في دافوس.
ولفهم سلوك الرجلين: بيريز وأردوغان لابد من إلقاء بعض الضوء على سيرة كل منهما الذاتية.
شمعون بيريز، على رغم أنه حاز على جائزة نوبل للسلام، لقاء المفاوضات التي أدت إلى السلام مع منظمة التحرير الفلسطينية، لكنه في الوقت ذاته الابن الشرعي للرعيل الأول من الصهاينة الذين أسسوا الدولة العبرية فوق أرض فلسطين. فهو من مواليد 1923، بلدة فيشنيفو البولندية، وينحدر من عائلة بيرسكاي، لكنه غيّر الاسم إلى بيريز في الأربعينيات. هاجر بيريز مع عائلته إلى فلسطين في 1934، كي يلتحق بالحركة التي أدّت إلى خلق «إسرائيل». كان وزير الدفاع من 1974 إلى 1977.
بالمقابل جاء أردوغان، الذي ولد في العام 1954، من عائلة جورجية فقيرة، والتحق في مرحلة مبكرة من حياته بحزب الخلاص الوطني بقيادة نجم الدين أربيكان، وكان مرشح حزب الرفاه لمنصب عمدة اسطمبول في العام 1994. تلقى تعليمه في مدارس «إمام خطيب» الدينية، وتخرج من كلية الاقتصاد والأعمال في جامعة مرمرة.
الفرق بين الاثنين واضح، فإلى جانب الفجوة الكبيرة في العمر، هناك التناقض في الخلفية المهنية، فبينما كان أردوغان خريج المدرسة السياسية، إذ تنقل في مختلف مراحلها بين أحزاب عدة، نجد أن بيريز، ابن المؤسسة الصهيونية، ورئيس مؤسستها العسكرية في مرحلة معينة من حياته. وقد عرف عن بيريز عنجهيته، وتمسكه بأن يكون آخر المتحدثين في أي حوار يجمعه مع آخرين، كي يضمن أن تكون له الكلمة الختامية.
وعودة للمشادة الكلامية وانسحاب أردوغان، الأمر المثير للانتباه فيها هو لماذا ذهب أردوغان، وهو السياسي المحنك، إلى آخر الطريق وغادر منصة الحوار؟ وبالمقابل، كيف نفهم التعاطف العربي معه؟
مما لا شك فيه أن انسحاب أردوغان، إلى جانب مبدأيته، فهو، أي أردوغان، ابن المؤسسة التركية الدينية، لكنه لابد وأن يحمل شيئا من المصلحة الذاتية لتركيا. فالمعروف أن لتركيا مصالح مشتركة مع «إسرائيل» تبدأ بالصناعات الحربية، وتعرج على التنسيق الأمني، ولا تتوقف عند حدود التعاون المشترك في تأمين مصادر المياه.
بالمقابل تمتلك تركيا علاقات جيدة مع العرب، فهي عاصمة رابطة العالم الإسلامي، وفيها الكثير من المؤسسات الإسلامية، وخاصة تلك العاملة في ميادين المال والخدمات المصرفية، لكنها تتناقض مصالحها مع العرب عندما يأتي الحديث عن مصادر المياه والتحكم فيها.
أما بالنسبة للموقف العربي، فيبدو أن درجة الإحباط التي تحيط بالعرب قاطبة تجعلهم أسرى أية إشارة تعاطفية يبديها هذا المسئول أو ذاك، وخاصة إزاء قضية مركزية مثل القضية الفلسطينية. لكن هل توقف العرب عند حسابات الخسارة والربح من الموقف التركي في دافوس؟ سؤال علينا أن نواجه أنفسنا به مهما كانت الإجابة مُرة أو مؤلمة.
على العرب قبل غيرهم، أن يسألوا أنفسهم عن الثمن الذي عليهم أن يدفعوه لقاء هذا الموقف التركي المتعاطف مع قضيتهم، وما هي انعكاساته الحقيقية على العلاقات التركية - الإسرائيلية. ليس المطلوب التشكيك في النوايا التركية، أو الوقوع تحت كوابيس «نظرية المؤامرة»، لكن بالقدر ذاته، لاينبغي لنا أن ننساق، عندما نرسم استراتيجية لنا قصيرة أو طويلة المدى، لخوض الصراع ضد «إسرائيل»، أن نبنيها تحت تأثير المواقف العاطفية، التي تفقد جدواها سريعا في موازين قوى الصراع بمستوى الصراع العربي الإسرائيلي.
إن كان انسحاب أردوغان من دافوس يعكس موقفا استراتيجيا من ذلك الصراع، ولصالح العرب، فمن الخطأ أن نقف عند حدود التطبيل الإعلامي أو التأييد اللفظي، أو المصافحة السريعة كتلك التي قام بها عمر موسى، ينبغي أن يتجاوز العرب كل ذلك كي يكافؤوا تركيا مكافأة اقتصادية - سياسية، تتحول إلى أرقام ومواقف عملية، أما إذا كان الموقف التركي هو جزء من تكتيك ذاتي ينطلق أساسا من المصلحة التركية، من دون أن يصل إلى المستوى الذي قد يتوهمه العرب، شعوبا وحكاما، فليس المطلوب هنا الانتكاس 180 درجة والتحول من ضفة المعجبين إلى منصة المعاداة، بل لربما المطلوب الاستمرار في موقف الامتنان لتركيا، دون أن يصاحب ذلك أي أوهام عربية، يصيبها الإحباط مرة أخرى عندما نفاجأ بموقف قد يبدو، في مظهره وليس في جوهره، متناقضا مع موقف أردوغان في دافوس.
المطلوب ببساطة وقفة هادئة مع العاصفة الأردوغانية يتم خلالها، حساب الخسائر والأرباح، بعيدا عن أي انفعال عاطفي غير مبرر
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2340 - السبت 31 يناير 2009م الموافق 04 صفر 1430هـ