بدأت حملة الدفاع المستميت عن الطاغية حتى قبل أن تشكّل محكمة أو تعدّ لائحة اتهام... ومن الآن حاول بعض المطوّعين من الكتبة أن يقنعنا بجرأة صدام وبطولته، ولولا تخديره لصنع بالأميركيين الأفاعيل!
ابنته رغد طرحت نظرية «التخدير» من ملجئها في عمّان، ولولا أن أباها خدّر بالغاز عبر أنبوب الجحر الذي اختبأ فيه، لما وقع فارس الفرسان لقمة سائغة بفم الاميركان. وينسى ذاك وهذه انه لم يفعل شيئا يوم كان الجيش يأتمر بأمره غير الفرار إلى الغار!
ومن محاسن الأقدار أن الجندي الذي اقترب من الحفرة لم يبادر إلى إلقاء قنبلة فيها تمهيدا لاقتحامها كما يجري في مثل هذه الحالات، ليس لذكاء الجندي الأميركي بل لذكاء صدام حين أسرع برفع يديه بالاستسلام. وإلا أصبح هذا الطاغية شهيدا عند أمةٍ مخدّرةٍ مازالت تعيش على تمجيد الطغاة. وما يردّ على هؤلاء المطوّعين للدفاع عن الطاغية أن أول كلمة قالها للجنود الغزاة: «أنا رئيس العراق، وأريد التفاوض»! وهي كلمةٌ تختزن من الحماقة والصفاقة بمقدار ما تختزن من الرد على أكذوبة التخدير، فرجلٌ مخدّرٌ لن ينطق بمثل هذه الكلمات الواضحات في الدلالة على مزاجه الذي عاش به حاكما أوحد لا يرى فيه إلا الكرسي لمدة خمسة وثلاثين عاما.
وإذا شئنا الحقيقة فالرجل لم يكن مخدّرا بالفوليوم والمورفين، وإنما بما هو أقوى أثرا وأعظم مصيبة: انه غياب العقل. ولكن مشكلة البعض أن الأسطورة التي فبركها الإعلام العربي حتى صدقوه، فلما بزغ الفجر رفضوا تصديق انقشاع الظلام، ولجأوا إلى تسويق جرعاتٍ أخرى من المورفين الإعلامي الجديد.
دفاع الابنة عن أبيها الجلاد طبيعي لأن «كل فتاةٍ بأبيها معجبة»، ولكن تصدي بعض حملة الاقلام للدفاع المستميت عنه يدفع المرء للشك، فيبحث عن حقيقة الارتباطات والمصالح والـ «مدفوعات»، أما أن تكون هناك موجة عامة من النواح والبكائيات على سقوط الطاغية حتى تنسينا أنه أصل الداء والبلاء، فتلك هي البلية الكبرى، إذ تمتحن الأمة في عقلها ووعيها وطريقة تقييمها وحكمها على الأمور.
«عربيٌ أنا»!
أن مشكلتنا نحن العرب أساسا، هي في طريقة تفكيرنا الشاذ، فنحن لا نفكّر بطريقة «انسانية» المنحى، تسيح قلوبنا رقة لاننا شاهدنا هذا الوحش بين يدي طبيب أجنبي يفحص شعره بحثا عن القمل، وننسى الملايين الذين تسببت سياساته المجنونة في إزهاق أرواحهم، وتيتيم أطفالهم وترمّل نسائهم. والحجة هو أنه «عربي» وكفى، ومادام الدم العربي يجري في عروقه وعروقنا فينبغي أن نتعاطف معه، ونبكي عليه حزنا، وهو ما يدل على أن قلوبنا مازالت أسيرة النوازع الجاهلية التي تحكّمت بأقوامٍ ذمهم الله تعالى بقوله في معرض الاستنكار: «أكفارُكُم خيرٌ من أولئكم أم لكم براءةٌ في الزبر؟» (القمر: 43).
وأنت تسمع كل تلك البكائيات على الفضائيات، تتأكد أن تلك الروح الجاهلية المذمومة مازالت تسيطر على كثير من العقول والقلوب في أرض العرب. فنحن لا نفكّر «إنسانيا»، وإنما تسوقنا النزعة القبلية العصبية في أكثر صورها عنصرية وانحرافا عن وجه الحق. وعلى رغم ما ذقنا من ويلاتٍ ومحنٍ بسبب الظلم والطغيان في بلداننا العربية، مازالت الحرية لا تعني لنا شيئا، مادام هناك حاكمٌ قويٌ متجبرٌ يقودنا على درب المغامرة والجنون العسكري، مهما كلفنا من أنهار الدم، وهو ما جنيناه من تربية أطرفٍ من الشارع العربي على ذلك الشعار الوثني المأزوم: «بالروح بالدم... نفديك يا صدام»!
قبل ليالٍ جلست لمدة عشرين دقيقة، استمع إلى الاتصالات الهاتفية بأحد البرامج «الجماهيرية» على الهواء، بدأ أحد المتصلين بالقول ان اعتقال صدام خسارة كبيرة للعراق، وجاء الآخر ليفتي انها خسارة للأمة العربية، اما الثالث فوصل إلى حالٍ من المكاشفة والارتقاء الروحي بقوله انها خسارة وإذلال للأمة الاسلامية جمعاء! اما الرابع فوصل إلى مرحلة كشف الغطاء وأستار الغيب بقوله: «انها خسارةٌ للعالم أجمع»! رئيسٌ مخدّرٌ... وأتباعٌ أكثر تخديرا، ومحبون أضلّهم السامريُّ بعجله!
حدث عابرٌ في التاريخ المزدحم بأمثاله، يمكن تلخيصه في أربع كلمات: طاغية انقضت أيامه فهوى، لماذا يعطى له كل هذا التعظيم الذي لا يستحق شيئا منه على الإطلاق. الأمم التي يحكمها العقل تقف على أرجلها لتتجاوز مرحلة الطغاة وتبدأ حياة جديدة. الألمان تجاوزوا هتلر وجنونه فاحتلوا مكانتهم اللائقة بين الدول الكبرى، واليابانيون كفروا بأن الامبراطور ابن الشمس بعدما ورّطهم في الحرب وانحنى أمام مكارثي، فصنعوا هذه المعجزة الصناعية الكبرى، أما أمتنا التي شربت كل انواع المظالم والهوان، فانها تنقلب باكية على مستعبديها بعد سقوطهم في الهاوية. وعلى هذه الأمة أن تنتظر عشرا أو عشرين أو أربعين سنة، حتى يبعث الله لها «صدّاما» آخر يقتّل أبناءها ويستحيي نساءها، ويعيد تقسيم أراضيها مرة أخرى كعكاتٍ أصغر ولقما أهنأ للدول الكبار، لتعود مرة أخرى تبكيه وترثيه... بانتظار صدّامٍ ثالثٍ ورابعٍ... حتى يوم يبعثون!
مزايدات أصحاب العجين!
ولو كان للعروبة حقا أن تتكلم لتبرأت اليوم من هذا الطاغية وما صنع بأقطارها، ولو كان للدم العربي أن ينطق لتبرّأ من هذا السفاك الذي أسال من هذا الدم أنهارا، ولو كان للأرواح التي أزهقها أن تحضر اليوم، لأقامت مأتما تنعى فيه العقل العربي الذي لم يدرك بعد أنه لم يخدم حاكمٌ عربيٌ قط أعداء الأمة في أي حقبةٍ من حقب التاريخ، بمثل ما خدم به صدام حسين الولايات المتحدة. تسلّم بلدا مزدهرا غنيا تتفجر فيه الأنهار، وسلّمه بلدا هزيلا يرزح تحت الاحتلال الاجنبي البغيض، وفرّ بجلده هاربا إلى حفرة منتنة يأكل الموز والبرتقال ويلتهم حلوى «الحلقوم»!
أمنيتي أن تصحو هذه الأمة من سباتها على وعي جديد، تضع على رأس تفكيرها موضوع «انسانية الانسان»، ليكون الانسان هو مركز الاهتمام والتكريم. لا تخدّرنا دعايات الطغاة ولا تطوّح برؤوسنا مغامرات المستبدين. أمنيتي ان تصحو هذه الأمة وهي في مأمنٍ من نداء الدجالين: «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة (من أجل مجد السيد الرئيس وحده طبعا)»، فكأننا أمةٌ من النعاج المغفلة، التي كتب عليها أن تتبرع بجماجم أبنائها من أجل بناءِ أمجادِ المغامرين وتشييد أهرام للطغاة والمستبدين. فمتى تصحو هذه الأمة على زمنٍ ليس للمستبدين ولا للكتبة الدجالين ولا للمحامين الأدعياء في حياتها مكان للتحكم والتطفل والإسترزاق؟
وكلما استغرق المرء في التأمل ساءه أن يبصر أمته تعيش على الأوهام، حتى أصبح الطغاة هم الأكثر حظوظا في تاريخها، فهم الحاكمون بأمرهم في حياتهم، وتنتصب تماثيلهم في الميادين وتقام لهم النُصُب ويحظَون بالتوقير والتبجيل. ويسوؤه أكثر أن يبقى الطغاة يحكموننا في حياتهم ويرهبوننا من حفرهم التي يهربون إليها حين يحمي وطيس أمهات المعارك والحواسم والقواصم. وحين تتكشف حقائق الجبن والعار ينعق أصحاب الباطل ويتطوع المحامون للقيام بأحقر مهمة تلوث تاريخ المحاماة، وهي الدفاع عن أرباب الجرائم ومصاصي الدماء. فإلى متى تبيعون أقراصكم على الخبازين يا أصحاب العجين؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 473 - الإثنين 22 ديسمبر 2003م الموافق 27 شوال 1424هـ