هناك حكاية جميلة ذات دلالات معبّرة عن سلوك عادة ما يُمارسه القادة والسياسيون بعد فناءِ حقبة ومجيء أخرى، وعندما يتحولون إلى معارضين أو حكومة ظل، وخصوصا السياسيين في عالمنا العربي والإسلامي، والحكاية تقول انه عندما تُوفي الزعيم السوفياتي وباني امبراطورية الشر (كما سّماها رونالد ريغان) جوزيف ستالين؛ وقف نائبه وخليفته نيكيتا خروتشوف أمام جمع من الرفاق في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي، مُتهجما على سياسات سلفه ولاعنا لعهده الذي وصفه بأنه اتّسم بالقهر السياسي وتصفية المعارضين.
وفي غمرة حديثه هذا رمى أحد الرفاق الجالسين من أمامه ورقة صغيرة مُتَكتّلة على بعضها صوبَه؛ وجد فيها خروتشوف هذه الجملة المُعبّرة «أين كنتَ من كل ذلك عندما كنت نائبا للزعيم»! وقد وجدت في هذا الحادث فتحا مهما لطبيعة أفهام العلوم والسياسة ومقاتلة شرسة من العقل إلى الضمير، وربما التحايل والانتقائية والتوصيف بما يخدم الفرد ويدخر له من المخزون النظيف ما يستقوي به لسواد الأيام والسنين.
وهو ما يُذكرني دائما بالسلوك السياسي والخطابي للشيخ حسين علي منتظري خليفة الإمام الخميني المستقيل، فمنتظري الذي عيّن بعيد انتصار الثورة الإسلامية خليفة للولي الفقيه من قِبَل مجلس خبراء القيادة الأول بدعم من تيار رابطة علماء الدين المناضلين التي كانت تقود النَفَس العلمائي الثوري النشِط في الأوساط الاجتماعية والحوزوية على رغم ما كان يُعرف عن الرجل بأنه أقرب إلى الفقاهة الدينية منه إلى الفقاهة السياسية ولكن المقادير الدستورية والتي صاحبتها التزكيات المرتجلة والدفع باتجاه الكارزمية المزعومة شاءت ذلك! إذ كانت تلك المقادير وبالا جرّ ما جرّ من كوارث سياسية على الثورة الإسلامية ودولتها، وساهم بغير قليل في تشطير الكثير من العلاقات البينية داخل خيمة الحكم، خالطا الأمور الإجرائية بالشخصية والأخيرة بفكر استصحابي بالٍ وبالتالي التموضع في ردهات لا حيّز لها ولا كنه ولاتوصيف، وهو ما يجعلني الآن أستحضر ما ذكره المسعودي في «مروج الذهب» أن بزرجمهر سُئِل: ما بال آل ساسان صار إلى ما صار إليه بعدما كان فيه من قوة السلطان وشدة الأركان؟ فقال لأنهم قلّدوا كبار الأعمال صغار الرجال.
وما عناه بزرجمهر هو عين ما توصّلت له أبحاث اليوم في علم السياسة لأن السياسية تحتاج إلى الكثير من الالتفاف والبرخماتية والمداهنة والتوظيف، والقفز (أحيانا) فوق اعتبارات لا تنفع في استراتيجيات الأمم البعيدة... لأنها المحركة للكون والمتحكمة في السلام والحرب والعلم والمعرفة والاقتصاد وسيادة الدول واستلابها لتُختَزل في قول الإنسيكلوبيديا الكبرى في فن حكم الدولة.
والآن وبعد مضي 15 سنة على استقالة منتظري من منصف خليفة الولي الفقيه يُدرك الإيرانيون جيدا فداحة الخطر الذي كان محدقا بإيران في ظل وجوده خليفة لأهم منصب في النظام الإسلامي (وفقا للمادة 110) ذلك أن منتظري ساهم وبقوة في توجيه كيان الدولة السياسي نحو التطرف والإنزلاق في مستنقعات دولية صعبة عن طريق التنظير والأدلجة للكثير من المفاهيم المطعمة ثوريا والتي راجت في ذلك الأوان؛ لم تنته إلاّ بعد خلافه مع أستاذه ورفاقه مع بواكير العام 1986 عندما ألقت قوات الأمن الإيرانية القبض على أخو صهره وتلميذه وابن استاذه مهدي هاشمي بتهمة اختطاط مسار آيديولوجي راديكالي مناهض لسياسة الدولة الرسمية أدى لتعثر علاقات إيران الخارجية في محيطها الإقليمي والعالمي وبتجسيره علاقات تمس الأمن القومي الإيراني مع جماعة مجاهدي خلق وتنظيم عمليات اغتيال متعددة في مدينة أصفهان وغيرها من المدن الإيرانية منها قتل أحد أعضاء مجلس خبراء القيادة وأحد المقربين للإمام الخميني الشيخ رباني أملشي الشيرازي وبتصرف غير مجاز بالأموال العامة وحيازة 280 قطعة سلاح مهربة من مقرات الحرس الثوري، إلى غيرها من التهم.
وبعد تلك التداعيات الأمنية التي انتهت باستقالته من منصب خليفة القائد رسميا في 13 مارس/آذار 1988 أسدل الستار على أخطر مرحلة عاشتها الثورة الإسلامية وخصوصا أن الصلاحيات التي كانت بيد منتظري وجهازه كان قد استُفيدَ منها في تمرير الكثير من المشروعات الثورية الخطيرة الصادرة عن بؤرة لنجان - أصفهان وعن مكتب دعم حركات التحرر الذي قام الإمام الخميني بحله مطلع العام 1986 واحتفظ به منتظري في مكتبه حتى بعد ذلك القرار، بل كان يقول في رسالة وجهها إلى الإمام الخميني «إن مؤسس قسم الحركات الإسلامية في إيران أي تبليغ الثورة الإسلامية في العالم وتعزيز القوى الثورية في البلدان كنت أنا والمرحوم محمد المنتظري وأعتقد أنها كانت ومازالت من أوجب الواجبات».
كان الوجود التنفيذي لمنتظري في موقع خليفة الولي الفقيه قد أربك الكثير من الأوراق والملفات في الدولة، فقد تعزز من خلاله التيار الراديكالي غير المنضبط بقواعد اللعبة السياسية وبالتالي رَشَحت عنه تفاعلات ديناميكية خطيرة زاحمت بشكل مزدوج منطق الدولة الدبلوماسي، فقد قام منتظري بفتح حساب مصرفي ضخم لتمويل الثورة الإسلامية العالمية وسياسية تصدير الثورة بشكل متطرف وهو ما جعل علاقات إيران الخارجية مع بعض الدول لأن تتعثر بشكل خطير.
وعندما قررت طهران الموافقة على القرار الأممي رقم 598 والقاضي بوقف الحرب مع العراق عارض منتظري ذلك القرار بشدة وقال معلقا بنبرة دوغماجية متطرفة «ادعو إلى تصعيد الهجمات ضد المصالح الأميركية في مختلف أنحاء العالم وليس بالإذعان لقرارات منظمة تحركها الولايات المتحدة» والغريب أنه يدعي في مذكراته بأنه كان من الداعيين إلى وقف الحرب منذ تحرير خرمشهر في الرابع والعشرين من مايو/ أيار 1982.
إن القارئ لمذكرات منتظري يَجِدُ أنه أراد أن ينحَتَ لنفسه شخصية سياسية بالكيف الذي يرتضيه ويتمناه ضاربا بذاكرة البشر والتاريخ عرض الجدار، فلم يكن منتظري معتدلا كما يُصوِّر (أو يُصوَّر) ولا هو الآن من الإصلاحيين كما يدّعِي ولم يكن مدافعا يوما عن حقوق الإنسان، فهو الذي شكّل محاكم الثورة وعيّن قضاتها وعين رئيس ديوان القضاء الأعلى آية الله موسوي أردبيلي ووصفه بأنه «جيد وخير الموجودين» وبعدها وصفه بأنه «غير صالح وينقصه الحزم» وهو الذي كان يدعو إلى إعدام شريعتمداري ثم بعد خروجه من الحكم ذرف عليه دموع التماسيح، وهو الذي كان يُشرف بالنظارة على شئون الحرس الثوري ويعين الموجهيين العقائديين في دوائره وكبار رجالاته ثم بعد خروجه اعتبرهم جناة وقتلة.
وهو الذي قام بعزل الشيخ مهدوي كني من مجلس أئمة الجمعة واتهمه بأنه يختط طريقا غير طريق ولاية الفقيه مع العلم أن الشيخ كني كان أحرص منه على ذلك .
وهو الذي هندس مكتب دعم حركات التحرر العالمية وبعد حلِّه من قِبَل الإمام الخميني احتفظ به في مكتبه وكان يقول لوزير الأمن الإيراني آنذاك محمدي ريشهري «إن حركات التحرر الإسلامية الحسنة أو السيئة كانت بأمري وتحت إشرافي».
وفي تحليل دقيق عن ذلك التناقض والإزدواج في المواقف كان الإمام الخميني يقول له «أنتم من خصوصياتكم أنكم تريدون أن تكتبوا تاريخكم بشكل جميل، فلو كان تأييدكم للنظام والإسلام يخدش تاريخكم فستبتعدون عن النظام والإسلام».
إن الممتهنين للترف السياسي وركوب حصان طروادة عن طريق المناداة بما ينادي به الناس، ولعن السياسات الخاطئة السابقة والحالية، يجب أن يدركوا جيدا أن تلك ما هي إلاّ شعارات يستخدمها هواة الحملات الانتخابية لنيل الغنائم والانحشار في موضة اليوم، وأن التاريخ والذاكرة هما الحَكُم الوحيد والفصل فيما يقولون وما يفعلون
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 471 - السبت 20 ديسمبر 2003م الموافق 25 شوال 1424هـ