العدد 470 - الجمعة 19 ديسمبر 2003م الموافق 24 شوال 1424هـ

من أجل عصر جديد خالٍ من «الثقافة» الصدامية

محمد صادق الحسيني comments [at] alwasatnews.com

بقدر ما كان المشهد مأسويا وكارثيا وحزينا وأنت تشهد رئيس دولة عربية مسلمة في قفص الاتهام الأميركي ذليلا، حتى ولو كان عدوك. بقدر ما كان المشهد احتفاليا وابتهاجيا ومفرحا وأنت ترى دكتاتورا ظالما جلس فوق صدر شعبه لعقود غصبا عنه يلقى تلك الخاتمة المتوقعة والنهاية المحتومة.

هذا هو القدر المتيقن من نقاط الاشتراك في المشهد العراقي الغريب الأطوار في الزمن العربي والإسلامي «الرديء».

غريب فعلا المشهد العراقي النخبوي وبائس إلى حد يثير الشفقة، على عكس نصاعة المشهد العراقي الشعبي الذي يدعو إلى الفخر والاعتزاز.

نحو 35 عاما وهو يحكم العراق «بالنيابة» أو مباشرة وهو يدعو إلى «مقاتلة العدو الأميركي الجبان» فإذا به يجلس القرفصاء «مستسلما لقدره» عندما تحين اللحظة المناسبة!

بالمقابل وبعد نحو 35 عاما من «الدعوة» إلى مقاتلة «الأجنبي الكافر وزبانيته» وفي طليعتهم «صدام العفلقي يسأله أحد «الدعاة»: وهل قاتلت الأميركيين أنت؟! والجواب في الحالتين واضح وبين للشعب العراقي الجريح والشهيد والمظلوم مثله مثل سائر «الشعوب» العربية والمسلمة بغالبيتها على الأقل. فالقائد في الحالة الأولى بنى حكمه أساسا على مهادنة الأجنبي إن لم يكن جاء بدعمه ومساندته ورعايته، على الأقل هذا ما اعتادت المعارضة على تربية كوادرها عليه، فإذا بها تتساءل فجأة: ولماذا لم يقاتل المحتلين؟!

ولكن الجواب الأكثر مأسوية وأبلغ دلالة هو الذي وجهه الزعيم «الخائن والعميل وبائع الوطن والشرف والكرامة» إلى المعارض البطل: وهل قاتلت أنت؟ وهنا الطامة الكبرى، فماذا عساه أن يقول ذلك المعارض الأبي الشهم وهو المدجّج «بمشروعية» الأجنبي المحتل «التحريري»!

نحو 35 عاما عاشها العراق المظلوم والجريح والشهيد والرئيس ليس رئيسا لكل العراقيين، بل وحتى ليس رئيسا للطائفة التي ينتمي إليها بالهوية، لا بل ولا حتى رئيسا لحزبه ولا لعشيرته ولا حتى لعائلته وأهله والمقربين، ومع ذلك رئيسا بقوة الحديد والنار وهيلمان فرعون الكاذب: «فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى» (النازعات:24).

وأيضا نحو 35 عاما والمعارضة العراقية في وضع بائس وحزين تفتقر إلى أبسط أشكال الوحدة الوطنية غارقة في بحور التجزئة الحزبية والفئوية والأنانية والشخصانية كما هي حال «الرئيس القائد» على رغم ضخامة حجم التضحية والفداء الذي فاق أعرق معارضات العرب والمسلمين.

بين ذلك الرئيس وتلك المعارضة يحشر الشعب العراقي الجريح والشهيد والمظلوم في «قفص الاتهام» اليوم «ليختار» بالإكراه بين بوش وصدام حسين! إنه ظلم ما بعده ظلم.

فهل يعتبر الرؤساء وهل تعتبر المعارضات؟! في العراق كما في إيران كما في السعودية كما في مصر كما في أي بلد عربي أو مسلم يبقى لسان حال الشعب يردد: نريد رئيسا لكل البلاد، لكل الطوائف، لكل السكان، لكل الشعب فردا فردا وجماعات جماعات. كما نريد معارضة عينها على الإصلاح، إصلاح ذات البين وبناء ما ينهدم، وليس عينها على السلطة والوصول إليها بأي ثمن كان حتى لو أتت بهدم كل ما بُني وباعت مقدرات الوطن في سوق النخاسة الدولية.

وهل تتعلم الشعوب بأن «الثقافة» الصدامية ليست حكرا على شخص صدام حسين أو هي وليدة هذا الرجل الغريب الأطوار بقدر ما هي مجموعة ممارسات وسياسات وتصرفات وعقليات ونفسيات قد تنشأ وتتبلور وتعيد صوغ نفسها حتى مع مناضلين سابقين ولو انتموا إلى أعرق الحركات والأحزاب النضالية وألمع «العوائل» أو الطوائف أو العشائر؟!

مرة قال مفتي البوسنة في مؤتمر للحوار مع مسيحيي أوروبا: يا ليت المسلمين يصمتون لمدة خمسين عاما لعل الإسلام «يتطهر» من أعمالهم باسم الإسلام، وينتصر الإسلام بنصاعة أفكاره ومبادئه بعيدا عن التسويق السيئ له من قبل المسلمين.

والآن يتساءل الكثيرون: ألسنا بحاجة فعلا إلى عصر عربي ومسلم جديد نعمل فيه أكثر من أن نتكلم؟ اذ يقول الحديث الشريف: «كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم»، ويقول أيضا: «إنما الدين المعاملة».

فهلا فكر الرئيس وفكرت المعارضة بهذين الحديثين فقط على الأقل قبل أن ينتهي الأمر بمجمله إلى ما انتهت إليه حال الرئيس والمعارضة العراقية، في قفص اتهام الشعوب لها بالجبن والذل والبؤس فضلا عن الخيانة والعمالة سواء كانت تلك التهم محقة أم باطلة!

إن لسان حال الشعوب العربية والمسلمة اليوم يقول: نريد رئيسا للجميع، نريد رئيسا يعمل ليل نهار من أجل الجميع، كما نريد معارضة وطنية شريفة عينها على الإصلاح وتهذيب وتشذيب وبناء ما يهدمه الرئيس عن قصد أو عن غير قصد، وبأيدٍ داخلية نظيفة، وان عجزت عن ذلك فلتسكت إلى حين، حتى لا تضطر إلى ان تسكت على الاحتلال والغزو والعدوان أو تسكت إلى الأبد! لأن ذلك في الحالة الأولى وصمة عار عليها، وفي الحالة الثاني عار عليها وعلى الأوطان التي تمثلها وفي ذلك تتساوى مع الرئيس.

منذ اليوم الأول للقصف على بغداد كان يجب على المعارضة أن تشكل مجلسا وطنيا للانقاذ يحضّر لمهمة «المصالحة الوطنية وتقصي الحقائق» خارج سقف قوات الاحتلال والعدوان. وليس بعد خراب البصرة وبغداد. ثم ان المصالحة الوطنية المطلوبة والمتوقعة من قبل الشعوب انما تتطلب اليوم أعمالا ملموسة أكثر مما تتطلب كلاما معسولا وسكوتا على ما يجري من ذبح يومي للوحدة الوطنية باسم الدفاع عن هذه الطائفة مرة أو ذلك العرق مرة أخرى، في وقت نرى ونشهد بأم أعيننا كيف يحترق الوطن تحت أقدام المحتلين ونحن لانزال نمعن في صراعات المحاصصة الحزبية والفئوية أو الطائفية المقيتة.

هذا فيما الطامعون بثرواتنا ومقدرات بلادنا لا يستحون ولا يتورعون من القول علنا إنه لم يبقَ أمامهم سوى سياسة فرق تسد والتقسيم. فهل نتحرر من «الثقافة» الصدامية سواء بالبكاء عليها أو لعنها ثم إعادة صوغها بثوب جديد؟

إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"

العدد 470 - الجمعة 19 ديسمبر 2003م الموافق 24 شوال 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً