عندما أجهز الجنود الاربعة على أبي مسلم الخراساني في المدائن ولفّوه في النطع وأخرجوه من الخيمة، عاد الخليفة العباسي أبوجعفر المنصور إلى الكرسي الذي يتوسط الخيمة وجلس، مسح لحيته وقال وهو يهز رأسه:
سُقِيتَ كأسا كنت تسقي بها أمرّ في الحلق من العلقم
وبذلك أسدل الستار على قصة الخراساني الذي أزهق أرواح ستمئة ألف إنسان على طريق تثبيت الحكم للعباسيين الذين بقوا يحكمون العالم الاسلامي مدة خمسة قرون!
أما أبوعدي التكريتي الذي لم يكن أقل إجراما ولا قتلا ولا ضحايا من مثيله الخراساني، فله البشرى بالسلام والأمن والخلود، وفوقه المجد المؤثل في عقول قطاعات من الناس من أبناء العروبة ومثقفي العرب الأقحاح، الذين بكوه وأعلنوا عليه الحداد قبل أن يصدر الحكم أو التفكير مكان عقد المحكمة!
وأبصم بالأصابع الخمس انه ليس هناك انسان محظوظ في العالم والتاريخ كله مثل صدام. حتى نابليون وما حظي به من شهرة، احتل حجمه الحقيقي هو ومغامراته العسكرية الجنونية التي أثكل فيها الآلاف من شعوب الشرق والغرب. أما صدام فهو الذي لن يمر بالتاريخ من هو اكثر حظا منه.
الدول رقيقة القلب
حتى على مستوى المحاكمة التي يفترض المنطق والعقل والعدل وكل القيم الانسانية وأرواح سكان المقابر الجماعية... أن يقدم إليها ويلقى جزاء ما اقترفت يداه من جرائم وفظائع، فلن يقدم إليها، وسيكون في منجاة من المحاسبة، مهما قيل عن ذلك. فمن اليوم الثاني لاعتقاله، سارعت «بريطانيا العظمى»، دولة الاحتلال الثانية في العراق، على لسان رئيس وزرائها إلى إعلان معارضتها إعدام صدام. ويوم أمس أعلنت بعض الدول الأوروبية الرقيقة القلب مثل الدنمارك وهولندا، معارضتها لهذا الحكم القاسي واللاإنساني الذي لا يستحقه!
الامم المتحدة العتيدة، الشاهدة على العصر، أعلنت الاستنفار على لسان أمينها العام كوفي عنان، وأعلنت معارضتها أيضا لمثل هذا الحكم «الوحشي» الذي لا يستحقه صدام! منظمات حقوق الانسان الدولية انضمت إلى الجوقة المغردة بأناشيد السلام والعدل والتسامح والصفح و«العفو عند المقدرة»!
حتى الرئيس الايراني محمد خاتمي أعلن معارضته إعدام رجل محا قرى كاملة من بلاده واستهدف بالقصف المساجد ومدارس الأطفال واستخدم الأسلحة الكيماوية ضد جيش بلاده... ألم أقل لكم انه لا يوجد شخص في العالم أكثر حظا من صدام؟ فما الذي ينتظر صدام إذا؟
ليبْشر صدام بالسلامة، فلن يقدر على محاكمته مجلس الحكم العراقي، فليس الأمر بأيدي أعضائه حتى في مثل هذا الأمر السيادي الكبير، حتى وإن احتجوا بأنهم من أكبر ضحايا صدام وأولى من يأخذ الحق منه.
وليبْشر صدام بالنجاة، لأن الولايات المتحدة الأميركية لن تقدم على محاكمته تسترا على دورها في دعمه وتثبيته وتقوية عضلاته حتى انقلب عليها بعد انتهائه من حربه الأولى ضد إيران، فليس من مصلحتها أن يظهر صدام أمام محكمةٍ دولية علنية ليكشف للعالم عن دور الإدارة الأميركية السابقة، وعلى الخصوص وزير الدفاع الحالي دونالد رامسفيلد فيما قام به في منتصف الثمانينات تحديدا.
البشرى لصدام
وليبْشر صدام بالأمان ورغد العيش، إذ سينقل إلى قصرٍ فخمٍ في دولة أوروبية يعيش فيه مكرّما منعّما، يحضرون له كل ما يشتهي، فالقانون الدولي المتحضر يكفل له التمتع بحال البراءة «حتى تثبت إدانته». هذه الادانة لن تتم لأنها لا تصب في مصلحة الكبار، حتى ألمانيا وفرنسا اللتين كانتا من أشد المعارضين للغزو الأميركي البريطاني للعراق. إذا، سيعيش صدام حسين في قصر أوروبي فخم مثل صاحبه الصربي ميلوسوفيتش، وسيتمتع بكل مباهج الحياة التي حُرِم منها طوال ثمانية أشهر في ذلك القبو المنتن، وستأتيه لذائذ المطبخ العالمي في كل وقتٍ وحينٍ، بعد أن عاش المسكين يلتهم الموز ويقضم البرتقال ويعتاش على علب التونة وقطع اللحم المجفف المعلّق على حبل في فناء المزرعة، إذ تحوم من حوله أسراب الذباب.
وليبْشر صدام حسين بأنه لن يعاني من التهاب جلدي بفعل لدغات البعوض، ولن يحتاج بعد اليوم إلى مرطب جلدي أو كريم لعلاج الالتهابات الجلدية. ولن يعيش بعد اليوم في قلقٍ على حياته، إذ ستتولى أميركا بجنودها وأساطيلها حراسته أينما كان من كل مكروه، ولن تصل له أية يدٍ بسوء حتى يقرّر عزرائيل النزول لقبض روحه المقدسة. وليطمئن صدّام انه لن يتلقى لطمة واحدة على وجهه، ولن تنتزع أظافره من منبتها داخل اللحم، ولن يعلّق منكّسا كالذبيحة من مروحةٍ بالسقف وينهال عليه الجلاوزة بالسياط حتى يكفر بربه. ليطمئن صدام انه لن توضع خشبة بين أسنانه ويغطى وجهه ويرمى به في المجاري كما كان يفعل بأبناء انتفاضة 1991، أو توضع قنبلة في جيبه لتفجّره وتتطاير أشلاؤه في الهواء. وليطمئن صدام العزيز انه لن يشنق في غرفة سوداء اللون، مظلمة كالقبر، لها أبواب حديد تصطك لها القلوب رعبا.
وفوق ذلك، وقبل أن «تتجرأ» أميركا على إعدامه فإن الحمية العربية التي ساءها فحص طبيب أميركي لفكيه، لن يقر لها قرارٌ حتى تحرق الأرض تحت أقدامها، في البر والبحر والجو، أليس في اعتقاله إهانة للأمة العربية الماجدة وتعد على الاسلام وانتهاك لقيم الأرض والسماء؟! فليطمئن صدام ولتطمئن الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج، لن يصلوا إليه بسوء، فالعالم كله، من المملكة المتحدة إلى الامم المتحدة إلى الدول الأوروبية الرقيقة القلب، إلى رئيس إيران خاتمي، إلى جنود الأرض والسماء، كلها أجمعت على ضرورة معاملة هذا القائد المحبوب معاملة انسانية راقية، وضرورة تمتع هذا المتهم زورا وبهتانا بمحاكمة عادلة! ألم أقل لكم انه لا يوجد من هو أكثر حظا على وجه الكرة الأرضية من صدام حسين؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 469 - الخميس 18 ديسمبر 2003م الموافق 23 شوال 1424هـ