العدد 468 - الأربعاء 17 ديسمبر 2003م الموافق 22 شوال 1424هـ

المشروع الإصلاحي بين التقدم والتراجع

قراءة في الحال السياسية البحرينية واستيعابها

تقي الزيرة comments [at] alwasatnews.com

تشهد الساحة البحرينية تصعيدا وانقساما متزايدا بين قطبي المقاطعة والمشاركة. النقطة التي انطلق منها التصعيد كانت دستور 2002 ثم انتخابات مجلس النواب إذ انقسم الشارع السياسي البحريني إلى قسمين: قسم يرفض دستور 2002 ويشكك بعضه بكامل الحركة الإصلاحية التي شهدتها البحرين منذ تولي جلالة الملك حمد بن عيسى زمام الحكم في مارس/ آذار 1999 ويطالب بتعديل الدستور (والعودة إلى مكتسبات دستور 1973)، وقسم يقبل دستور 2002 كبداية متواضعة، ويتوسم الأعذار ويؤيد المسار المتدرج للحركة الإصلاحية باتجاه التحقيق الفعلي لدولة المؤسسات والقانون والعدالة الاجتماعية وفصل السلطات.

ويبدو للوهلة الأولى أن الجميع متفقون على أهمية مسألة فصل السلطات الثلاث وإخراج السلطتين التشريعية والقضائية عن مدار الهيمنة التقليدية للسلطة التنفيذية. إلا أن الاختلاف يكمن في ما إذا كان دستور 2002 يحد من صلاحيات التشريع ويجعلها مقيدة بموافقة الملك/ الحكومة، وما إذا كان من الممكن تمرير التعديل المطلوب على الدستور من تحت قبة البرلمان أم من خارجه؟ وفي الوقت الذي مال التيار السياسي الإسلامي (السني) وفصائل التيار الديمقراطي وبعض المستقلين إلى القبول بفلسفة التدرج الديمقراطي وضرورة المشاركة في الحركة الإصلاحية وخوض منافسة الانتخابات النيابية، أكد التيار السياسي الإسلامي (الشيعي) وفصائل من التيارين الديمقراطي والقومي على ضرورة التصدي (للتراجع) الذي شهدته الحركة الإصلاحية ولاسيما دستور 2002 (والمطالبة بمكتسبات دستور 1973)، بينما انقسم المجتمع المدني لاسيما العمال والتجار والمثقفون والطلاب بين هذا المعسكر وذاك.

من الواضح أن الحال السياسية الراهنة في البحرين، تمر بمخاض طبيعي ومتوقع، قد تشهده وتواجه أية دولة تتحول، بين ليلة وضحاها، من إمارة تحكمها وتتوارثها عائلة حاكمة، إلى مملكة دستورية يحكمها نظام دولة المؤسسات والقانون والعدالة، وترفع سقف الحريات العامة، لاسيما حرية التعبير وتسمح بتشكيل الأحزاب السياسية، وتتبنى منهج المساءلة والمحاسبة لأعضاء السلطة التنفيذية. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل هناك تشخيص (موضوعي) للحال السياسية الراهنة في البحرين؟ وهل التفت المراقبون والساسة إلى أهمية إيجاد إجابة وتفسير لأسباب التراجع في الحركة الإصلاحية، أو تباطؤها، أو ابتعادها قليلا أو كثيرا، عن الغايات الكبرى التي رسمها (ميثاق العمل الوطني) البحريني؟

ومن الواضح أيضا أن المعارضة البحرينية في الوقت الذي نجحت في تعبئة الشارع البحريني ضد المسار الذي انتهى إليه المشروع الإصلاحي وبرهنت أهمية التعديل على دستور 2002 ودوره في تأسيس فصل حقيقي للسلطات الثلاث، إلا أنها أغفلت أهمية قراءة جديدة للمشهد السياسي والوقوف على أسباب تراجع أو بطء إيقاع الخطوات الإصلاحية، بل ودخلت في جدال واختلاف بداخل صفوفها، وانحازت مع كل من اتفق معها، وخوّنت كل من اختلف معها حتى لو كان متفقا معها (أيديولوجيا)، مما صار يهدد بانقسام واضح في ساحة المعارضة. وبينما استغرق (تيار المشاركة) من جانبه في تأييد المشروع الإصلاحي وهون، بين الفينة والأخرى، من التحديات التي تواجه الحركة الإصلاحية، نجد على الجانب الآخر أن (تيار المقاطعة) بالغ في تهويل حجم التراجعات التي صنفها في مسار الحركة الإصلاحية.

ففي كثير من البيانات أو المقالات التي صدرت من رحم المعارضة البحرينية نجد أنها اهتمت إما: بتضخيم حال (التراجع) في الإصلاحات السياسية أو المبالغة في امتداح حجم (الإنجازات) الإصلاحية، وبصورة مشحونة بالعاطفة والحماسة والانفعال، وبعيدة، قليلا أو كثيرا، عن التحليل السياسي الموضوعي الذي يرقى للمستوى الثقافي للرأي العام البحريني وللخبرة الطويلة للمعارضة. هذا الخطاب السياسي الغاضب للمعارضة انعكس بصورة واضحة على المواطنين المتلقين لهذا الخطاب. فكان من الطبيعي أن تتفاعل معه بصورة حماسية فئة الشباب والعاطلين والفقراء وأصحاب الدخل المحدود، لاسيما فئة الشباب القرويين الشيعة. وفي المقابل نجد أن الفئات الأخرى من الشعب وخصوصا التيار الإسلامي (السني) وفئة كبيرة من المثقفين والمجتمع التجاري وكبار رجال الدين الشيعة لم تتقبل هذا الخطاب التصعيدي أو ذاك الترويجي، وتعاملت مع الحركة الإصلاحية بصورة معتدلة. هذه الفئات، وإن اختلفت أطيافها، إلا أنها تشترك معا في القبول بدستور 2002 كنقطة انطلاق معقولة، وتتوجس من وقوع المجتمع في سلسلة جديدة من الاضطراب السياسي والعنف الاجتماعي، والانزلاق جميعا بداخل المربع رقم واحد.

السؤال إذن: هل ما حدث كان تراجعا فعلا، أم تحديات لم تكن في الحسبان، أم كان مسرحية قوية خطط لها حاكم البحرين الجديد؟ ما الذي حدث فعلا؟

الجواب على هذا التساؤل يقودنا للحالة السيكولوجية التي كان يعيشها كل من الحاكم والمحكوم ابان انطلاقة الحركة الاصلاحية في العام 2001. ففي الوقت الذي شهدت حركة المعارضة في الداخل والخارج ضربات متتالية جعلتها تترنح وتتراجع قليلا في أواخر التسعينات، فاجأ الملك حمد بن عيسى، بعد حوالي عام من توليه السلطة، فاجأ الجميع بمبادرته الاصلاحية، إذ قام باطلاق سراح جميع المعتقلين، واعادة المنفيين والمبعدين، والسماح بتأسيس الجمعيات السياسية، وأطلق مشروع ميثاق وطني يؤسس لدستور جديد وبرلمان وديوان للمحاسبة والمساءلة في مملكة دستورية، ويفتح صفحة جديدة من تاريخ البحرين (حتى وصفه بعض المراقبين بأنه نفسه قاد ثوره بيضاء حمل فيها لواء التغيير ونصرة المظلومين من أبناء شعبه) إلا أنه واجه واقعا صعبا ومعقدا جدا يتطلب مراعاة الكثير من التوازنات والمصالح والهواجس المحلية والدولية.

حدث كل هذا في فترة وجيزة وقياسية جدا فاقت تصورات المراقبين والمعارضة نفسها، ما أدى الى التفاف جماهيري، غير مسبوق في تاريخ البحرين المعاصر، حول الحاكم ومشروعه الاصلاحي، ونقل امارة البحرين وحوّلها الى مملكة دستورية، هي الأولى من نوعها في المنطقة، أصبحت فيه مملكة البحرين نموذجا يضرب به المثل في المحافل العربية والدولية.

ومما لا شك فيه، أن هذا التحول السياسي الكبير، الذي جاء به الملك حمد بن عيسى وخطابه المتفائل قد أدى الى رفع سقف التوقعات والآمال الى درجة عالية جدا. ومع أن اللجنة العليا لاعداد الميثاق عينتها الحكومة البحرينية لاعداد مسودة الميثاق، قبل طرحها للتصويت من قبل الشعب في أكتوبر/ تشرين الأول ووجهت بحال من الريبة والحذر من المعارضة، الا انها لاحقا صادقت على هذا الميثاق ودعمته بقوة، ما أدى الى ارتفاع حال التفاؤل والآمال لدى الناخبين الذين صوتوا لصالح الميثاق البحريني فارتفع فعلا سقف التوقعات لدى المجتمع البحريني الى أقصى الحدود.

كيف بدأت الأزمة

المشكلة بدأت عندما جاء دستور 2002 الذي أعدته لجنة حكومية مكونة من وزراء الحكومة وقدمته للحاكم للتصديق عليه. فقد أعطى هذا الدستور لمجلس الشورى (المعين) من الحكومة الصلاحيات نفسها المناطة بمجلس النواب (المنتخب) من الشعب في التشريع، وتساوى معه في عدد الاعضاء، وهو 40 عضوا لكل مجلس. وبينما انفرد مجلس النواب بحق المساءلة، إلا أن مجلس الشورى انفرد برئاسة المجلس الوطني، الذي يجمع المجلسين، تحت مظلة واحدة لحسم المسائل التي يختلف عليها المجلسان.

من هنا بدأت المشكلة، التي تبلورت هذا اليوم في شكل أزمة سياسية جديدة (أطلق عليها دعاة المقاطعة مسمى الأزمة الدستورية) وانقسم على إثرها المجتمع البحريني الى اتجاهين: اتجاه يطالب بالتعديل على الدستور الجديد الذي اعتبره (دستور منحة) لم تتحقق له الصفة التعاقدية بين الحاكم والمحكوم، وهو اتجاه يرفض المشاركة في مجلس النواب ويقاطع انتخاباته ونوابه والمؤسسات الدستورية الأخرى التي جاء بها دستور 2002 (اصطلح على تسميته تيار المقاطعة)، واتجاه يعتبر نفسه أكثر واقعية ويقبل بدستور 2002 ويعتبره معبرا معقولا عن طموح الشارع البحريني ويعترف بأهمية التعديل على الدستور الجديد، ولكنه يرى امكان تحقيق ذلك من تحت قبة البرلمان نفسه، وبصورة تدريجية، تتزامن مع تطور الثقة بين الحاكم والمحكوم، وتتفعل بصورة واقعية، مع الانفصال التدريجي للسلطتين التشريعية والقضائية، وتحررهما واستقلالهما عن هيمنة السلطة التنفيذية، بل ويدعو للمشاركة بقوة في الانتخابات النيابية (ولذلك صار يُعرف باسم تيار المشاركة).

والمشكلة من ناحية أخرى هي أن سقف الآمال والتوقعات الذي تبلور بين الناس، ولاسيما لدى المعارضة، كان رفيعا جدا. فقد توقع المجتمع ونخبه السياسية (والاقتصادية أيضا) أن يقوم الحاكم الجديد بايجاد برلمان ينفرد بالتشريع، من دون مزاحمة من مجلس معين، وأن يقوم بتشكيل سلطة تنفيذية جديدة، تكون أكثر تعبير ا عن المرحلة السياسية المنفتحة التي تشهدها البحرين، سلطة تؤمن بالميثاق وتترجمة عمليا، وأن تتم محاسبة ومحاكمة الفاسدين (والجلادين) من العهد السابق. إلا أن ذلك لم يحصل بالصورة (والدرجة والسرعة) التي توقعها المجتمع. فلماذا لم يحصل ذلك فعلا؟ هل أخطأ المجتمع في فهم الخطاب السياسي الرسمي؟ هل كان «المشروع الاصلاحي» مجرد مسرحية سياسية وتطوير صوري (وكرنفالي) قصد منه الحاكم التخلص من الضغوط الدولية وتسلم زمام الحكم في مملكة دستورية جديدة خالية من الاضطرابات والازمات السياسية، مثلما تردد (بعض) فصائل المعارضة البحرينية؟

من الواضح أن قراءة الحال السياسية الراهنة في البحرين وتشخيصها مختلف عليها الى حد كبير الى درجة قسمت الشارع البحريني الى اقسام عدة شملت المعارضة والمجتمع بكل تصانيفهما واطيافهما. ففي كل تيار أو طيف سياسي أو مدينة أو قرية نجد أن هناك رأيين أو ثلاثة كل واحد منها يقرأ الحركة الاصلاحية بصورة مختلفة حتى أصبح بسببها هذا الاسلامي يتفق مع ذاك العلماني (الذي يرفض تدخل الدين في السياسية) وذلك بسبب اتفاقهما في قراءة الحال السياسية البحرينية، بينما اختلف الاسلاميون بعضهم بعضا كما اختلف العلمانيون فيما بينهم بسبب اختلافهم في القراءة وفهم وتفسير ما يدور. ولهذا السبب ظهر تنازع واختلاف بداخل المجتمعات المدنية وبداخل الجمعيات السياسية نفسها، وانقسمت على أثرها اداراتها وجماهيرها بين قطب المقاطعة وقطب المشاركة، بل وصارا يتراشقان، سرا أو علنا، بالسباب والتهم والتخوين والعمالة للحكومة

العدد 468 - الأربعاء 17 ديسمبر 2003م الموافق 22 شوال 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً