منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي وحتى الآن، والنظام العربي يعاني خللا شديدا وانشقاقا حادا، بعدما كسر نظام صدام حسين أحد أهم المحرمات بغزوه الكويت في أغسطس/ آب 1990، الأمر الذي أدى إلى نتيجتين خطيرتين، الأولى هي انقسام العرب مع وضد، وبالتالي زعزعة الأمن القومي العربي ونظامه السياسي العام، والثانية هي تدفق القوات الأجنبية - وخصوصا الأميركية والبريطانية - بكثافة على الوطن العربي، لتحرير الكويت من الغزو العراقي الطائش في البداية، ثم لترسيخ نفوذها ووجودها المستمر في الأراضي العربية في النهاية، مرورا بأن «إسرائيل» كانت الرابح الأساسي في كل الظروف...
وعلى رغم أهمية هاتين النتيجتين وخطورتهما المستمرة بل المتصاعدة حتى الآن، فإن الأهم والأخطر، أن هذه الحوادث وتوابعها وصولا إلى غزو العراق واحتلاله في العام 2003، كشفت هشاشة وضعف النظم العربية الحاكمة في الدول العربية جميعا، رويدا رويدا، وعاما بعد عام على مدى أكثر من عقد من الزمان، حتى عرتها تماما بعد الغزو الإنجلوأميركي للعراق، والحملة ضد الإرهاب، انتهاء بما يجري الترويج له الآن، من فرض الديمقراطية الأميركية على هذه النظم، المتهمة بالفساد والاستبداد، وإجبارها قسرا على إجراء إصلاحات ديمقراطية، تجاهلتها طويلا وكثيرا، فأقرت بؤسا وإحباطا وفقرا وتطرفا...
وها نحن نرى ونراقب الآن، هذه النظم واقعة تحت الضغط السياسي الاقتصادي العسكري الأميركي المباشر، تقف حائرة شاردة، بين الاستجابة للضغط الأميركي والتضحية ببعض سلطاتها المطلقة وتراثها المتراكم، وبين التمسك بهيلمان السلطة وإغراء الثروة وقوة النفوذ، الذي أدمنته من طول الجلوس على منصات الحكم من دون شريك أو رقيب.
والأخطر أن معظم هذه النظم العربية، تجاهلت على مدى عقود وعقود، الدعوات والمطالبات السياسية والفكرية، المنطلقة من شعوبها، بضرورة إجراء إصلاحات ديمقراطية، تحقق العدل والمساواة والتعددية السياسية، وتداول السلطة وإطلاق الحريات العامة، تلبية لحاجات داخلية وتطورات وطنية، قبل أن تهب الضغوط الخارجية...
بل رأيناها تسير للأسف في الطريق المعاكسة، إذ شهدت السنوات الأخيرة مزيدا من تقييد الحريات العامة، ومزيدا بالتالي من الاستبداد والفساد، ومزيدا من التمسك بكل السلطات حتى التجمد والتكلس فوق الكراسي، بينما كانت دول العالم من حولنا تتسابق، ليس فقط لإطلاق الحريات وترسيخ الممارسة الديمقراطية، بل أيضا لبناء أنماط وطنية قوية من التنمية الشاملة تطلعا إلى تقدم حقيقي... وانظر ماذا فعلت دول مثل كوريا وماليزيا ورومانيا والمجر والأرجنتين والبرازيل وجنوب إفريقيا خلال السنوات العشر الأخيرة فقط!
ولم يكن نظام صدام حسين المخلوغ بالغزو الأميركي، هو النظام العربي الاستبدادي التسلطي الوحيد أو الفريد، وإن كان هو الأقسى والأشد عنفا ودموية، لكن ممارسات الفساد والاستبداد، تفاوتت وتنوعت فيما بين النظم العربية الأخرى، بعضها كان مناورا، فسمح بهامش من الديمقراطية الشكلية والحريات التجميلية، وبعضها الآخر كان متحجرا، أصرّ على ثوابت السلطة المنفردة، والدليل هو قياس مدى تمتع المواطن العربي بحرية الرأي والتعبير والمشاركة والمراقبة والمحاسبة، وفق المعايير الدولية المعروفة، وقياس مدى تقدم التنمية الشاملة التي تحقق العدل الاجتماعي في كل دولة عربية على حدة، وتقلص مساحات الفقر والبطالة والركود والنهب والتخلف... النتيجة واضحة لا تحتاج إلى دليل!
نعلم جميعا أن حكوماتنا في مواجهة هذه التحديات العاصفة، التي تهدد سلطتها وسلطانها، تقع في مرحلة ضبابية، تتسم بالسيولة والتردد والحيرة بل والعجز، أسيرة الورطة، لا تعرف من أين بالضبط تتلقى الهجوم والضربات والمطالبات من الداخل أو من الخارج...
ولذلك نقترح أن تساهم الخلايا الحية والفئات النشيطة في مجتمعاتنا - وما أكثرها - في التفكير والحوار الجاد العلني والديمقراطي، عن أفضل السبل لتحقيق أهدافنا الوطنية القومية، وأهمها إطلاق الحريات والإصلاح الديمقراطي، وصيانة الاستقلال والسيادة في مواجهة الهيمنة الأميركية الهاجمة، وبناء تنمية شاملة وحقيقية في مجتمعات حرة مستقلة قادرة على التقدم، مع الاستفادة الإيجابية من المناخ الدولي العام المتسم بالديمقراطية والتقدم والعلم والتكنولوجيا...
وبدلا من إضاعة وقتنا وجهدنا في جدل عابث يثيره مختطفو الديمقراطية من جماعة «المتأمركين العرب» الداعين المروجين للدعوات والسياسات الأميركية وحدها، دعونا نفكر ونتحاور علنا وبحرية بشأن قضايا رئيسية، مدخلا للإصلاح الديمقراطي الحقيقي النابع من حاجاتنا... نحن
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 468 - الأربعاء 17 ديسمبر 2003م الموافق 22 شوال 1424هـ