المقال الذي كتبته مباشرة بعد القاء القبض على الرئيس العراقي صدام حسين كان حماسيا ومنطلقا من معاناة عايشناها سنوات طوال مع القائد غير الفذ الذي أهلك الحرث والنسل. ومن بين الردود التي تسلمتها على المقال كان ردا لغويا يختص بالقواعد العربية... فعنوان المقال كان «بئسا لك من طاغية»، وكان المفترض ان يكون العنوان «بئس» لان (والعهدة على اهل القواعد) الكلمة «فعل ماض جامد، والفعل لاينون» ... غير انني، ولانني لست من أهل القواعد واللغة وافقتهم على التعديل بهدف آخر. فصدام أيضا هو «فعل ماض جامد» بكل ما للجمود من معنى.
لقد «جمّد» صدام تسامحنا الاسلامي فيما بيننا عندما شن حربه الجاهلية على إيران الاسلام وأنهك ثروتي البلدين وتسبب في قتل مئات الآلاف من ابناء الشعبين وأخر التقدم الاقتصادي فيهما وأشعل كل النعرات التي قضى عليها الاسلام وحاول خلق الفتنة بين الفرس والعرب وبين الشيعة والسنة ولم يوقفه اي رادع...
لقد «جمّد» صدام مفاهيم النخوة العربية وراح يهدد جيرانه الذين استعان بهم في حربه الجاهلية وغدر بالعرب كما كان قد غدر بالمسلمين، واحتل الكويت وتسبب في مجيء العساكر الاميركان وغير الاميركان بطلب من حكام المنطقة الذين لم يجدوا منقذا لهم من فتكه.
لقد «جمد» صدام دماء العراقيين في عروقهم واصبح كل عراقي يجمد في مكانه بمجرد ذكر اسمه. فاسمه لايعني الاصطدام بكل شيء فحسب وانما تجميد فكر الانسان لان اي بشر عادي يعجز عن فهم طبيعة هذا الحاكم المستبد الذي لم يعرف بطشه وارهابه لشعبه اية حدود.
لقد «جمّد» صدام كل مفاهيم الحكم وحولها الى صنمية تحمل اسمه في كل مكان وفي كل مناسبة. بل انه فاق كل الحكام العرب في انتخاباته واعلن ان شعب العراق «جُمد» ولم يفكر لحظة واحدة وانتخبه بنسبة مئة في المئة. صناديق الاقتراع تم تجميدها مسبقا على اسم صدام حسين بحيث لم تستطع المئة في المئة التواضع قليلا كما تواضع بعض الحكام العرب واعلن نسبة الفوز 99 في المئة.
الاقتصاد العراقي - وكان من افضل الاقتصادات في عالمنا العربي - جُمد في اللحظة التي تسلم فيها صدام وزمرته الحكم. وبعد ان تجمد وتفتت. وبدلا من أن يكون الدينار يعادل ثلاثة أو اربعة دولارات، اصبح الدولار يعادل آلاف الدنانير العراقية، ومعدل الغلاء ارتفع الى أكثر من ستة آلاف في المئة... العمران العراقي جُمد وتهرأ في كل مكان ماعدا في قصوره التي ازدادت وارتفعت ووزعت عليه وعلى افراد عائلته الذين التحقوا معه في ركبه، يقتلون ويسفكون الدماء ويلهون ويعبثون بكل شيء، بعد ان جمّدوا حياة الناس وحولوها الى «فعل ماض جامد».
صدام بحق «فعل ماض جامد»، فهو فعل من افعال الماضي، وهو «ماض لن يعود» ونأمل ان يلحق به امثاله، وهو جامد في «قبوه» الذي اختاره لنفسه، وقريبا سيجمد إلى الابد ولايبقى إلا ذكره يلاحق امثاله
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 468 - الأربعاء 17 ديسمبر 2003م الموافق 22 شوال 1424هـ