العدد 468 - الأربعاء 17 ديسمبر 2003م الموافق 22 شوال 1424هـ

كانت صورتها جزءا مؤثرا في حياتنا اليومية

الموت يغيّب فدوى طوقان

غيبّ الموت الجمعة 12 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان التي وافتها المنية في مستشفى نابلس التخصصي عن 85 عاما، اثر هبوط في القلب، بعد ان بقيت في العناية المركزة زهاء ثلاثة اسابيع.

ولدت طوقان التي لقبت بـ «شاعرة فلسطين» في مدينة نابلس العام 1917 في عائلة معروفة، ولم تستطع اكمال تعليمها الثانوي، واكتفت بالابتدائية، الامر الذي أدى إلى تدخل شقيقها الشاعر الراحل ابراهيم طوقان، الذي عمل على تثقيفها، فظهرت موهبتها الادبية في مرحلة مبكرة من حياتها، وكتبت أولى قصائدها بمباركة وتشجيع من شقيقها.

وتناولت طوقان في الكثير من مؤلفاتها موضوعة المرأة في المجتمع الفلسطيني، اضافة الى نضال الفلسطينيين في سبيل نيل الحرية.

وصدر للأديبة الراحلة الكثير من المؤلفات الشعرية والنثرية مثل «أخي ابراهيم» العام 1946، «وحدي مع الايام» 1952، «وجدتها» 1957، «اللحن الاخير» 2000، اضافة الى عدد من الكتب النثرية التي سجلت فيها سيرتها الذاتية، مثل «رحلة صعبة - رحلة جبلية» العام 1985.

ابن شقيق الشاعرة المهندس المعماري المعروف جعفر طوقان قال لـ «الوسط»: ان فقدان عمتي فدوى خسارة حقيقية وخصوصا انني طوال عمري اعتبرها نجمة، نجمة حقيقية ولكنها كانت متواضعة، اذ لم تكن تشعر بنجوميتها وهذا كان ومازال يعجبني كثيرا، هي نموذج الانسان المبدع الذي يبدع لاجل الابداع نفسه، وليس من اجل الشهرة او المال.

واضاف يقولون ان نجم الانسان يأفل بعد موته، الا ان نجم عمتي الشاعرة فدوى طوقان لم ولن يأفل بعد وفاتها وتركها الدنيا، ذلك انني اعتبر ان من نعم الله على الفنانين والمبدعين انه عندما تموت اجسادهم تظل ابداعاتهم من بعدهم تذكِّر بهم.

استذكر بيت العائلة القديم في نابلس الذي كان يسمى «الدار الكبرة» إذ كان جو البيت يرسخ السعي إلى التميز والابداع مرشحا في عقولنا وقلوبنا كأطفال - انذاك - جو القيم والمفاهيم التي تقوم على احترام الانسان والمودة والتعاون واستذكر غرفة عمتي فدوى الملاصقة لغرفة نومنا (والدتي وشقيقتي عريب وانا في بيت العائلة) وكانت غرفتها تطل على غرفة المعيشة، واذكر بابها الزجاجي اذ كان الباب شباكا قبل ذلك. واراها في ذاكرتي كجزء من حياتنا اليومية، وكنا نراها اما تقرأ او تكتب او تعزف على آلة العود... هذه صورتها في ذاكرتي وستظل. كان لعمتي فدوى صوت جميل، فهي تمارس الغناء احيانا، صحيح ان صوتها عندما تتحدث بالكاد كنا نسمعه... فصوتها خافت حنون، الا ان لها صوتا مرتفعا مميزا وجميلا عند الغناء.

ولفت: على رغم خفوت صوتها عندما تتحدث مع العائلة او الاصدقاء او مجموعة قليلة العدد فإنها عندما تلتقي مع مجموعة كبيرة يصبح صوتها عاليا جهوريا يفرض حضورها الطاغي والجميل، وهذا ما ادهشني قبل اعوام قليلة حين استضافتها الجامعة الاردنية بحضور زهاء 3 آلاف طالب حضروا للقائها وادهشني صوتها العالي والواثق.

كانت صورتها على الدوام جزءا مهما ومؤثرا من حياتنا اليومية في طفولتنا، وستظل صورتها تشغل حيزا خاصا في ذاكرتنا التي لن ننساها ابدا، فمازالت حاضرة في ذاكرتي حين كنت في بواكير الصبا واخذت مجموعة من كتابات مارستها وقدمتها لها فقالت لي افكارها جميلة ولغتها جميلة لكنها ليست شعرا.

ويفند الباحث والناقد الاردني تيسير النجار سيرة حياة الراحلة فيقول: فدوى طوقان التي ولدت في نابلس العام 1917 لأسرة عريقة وغنية ومحافظة اعتبرت مشاركة المرأة في الحياة العامة أمرا غير مستحبّ، فلم تستطع إكمال دراستها، واضطرت إلى الاعتماد على نفسها في تثقيف ذاتها. وقد شكلت علاقتها بشقيقها الشاعر إبراهيم علامة فارقة في حياتها، إذ تمكن من دفع شقيقته إلى فضاء الشعر واستطاعت - وإن لم تخرج إلى الحياة العامة - أن تشارك فيها بنشر قصائدها في الصحف المصرية والعراقية واللبنانية، وهو ما لفت إليها الأنظار في نهاية ثلاثينات القرن الماضي ومطلع الأربعينات.

موت شقيقها إبراهيم ثم والدها ثم نكبة 1948، جعلها تكتب شعرا رثائيا في تلك الفترة الى الدرجة التي سميت فيها بالخنساء كما جعلها تشارك من بعيد في خضم الحياة السياسية في الخمسينات، وقد استهوتها الأفكار الليبرالية والتحررية كتعبير عن رفض استحقاقات نكبة 1948. وكانت النقلة المهمة في حياة فدوى هي رحلتها إلى لندن في بداية الستينات من القرن الماضي، والتي دامت سنتين، فقد فتحت أمامها آفاقا معرفية وجمالية وإنسانية، وجعلتها على تماسٍّ مع منجزات الحضارة الأوروبيّة. وبعد نكسة 1967 تخرج الشاعرة لخوض الحياة اليومية الصاخبة بتفاصيلها، فتشارك في الحياة العامة لأهالي مدينة نابلس تحت الاحتلال، وتبدأ عدة مساجلات شعرية وصحافية مع المحتل وثقافته.

واضاف النجار: تعدّ فدوى طوقان من الشاعرات العربيات القلائل اللواتي خرجن من الأساليب الكلاسيكية للقصيدة العربية القديمة خروجا سهلا غير مفتعل، وحافظت فدوى في ذلك على الوزن الموسيقي القديم والإيقاع الداخلي الحديث. ويتميز شعر فدوى طوقان بالمتانة اللغوية والسبك الجيّد، مع ميل للسردية والمباشرة. كما يتميز بالغنائية وبطاقة عاطفية مذهلة، تختلط فيه الشكوى بالمرارة والتفجع وغياب الآخرين. على مدى 50 عاما، أصدرت الشاعرة ثمانية دواوين شعرية هي على التوالي: «وحدي مع الأيام» الذي صدر العام 1952، «وجدتها»، «أعطنا حبا»، «أمام الباب المغلق»، «الليل والفرسان»، «على قمة الدنيا وحيدا»، «تموز والشيء الآخر» و«اللحن الأخير» الصادر العام 2000، عدا عن كتابي سيرتها الذاتية «رحلة صعبة، رحلة جبلية» و«الرحلة الأصعب».

الشاعرة فدوى طوقان تقول في مذكراتها: خرجت من ظلمات المجهول الى عالم غير مستعد لتقبلي. امي حاولت التخلص مني في الشهور الاولى من حملها بي. حاولت وكررت المحاولة. ولكنها فشلت. عشر مرات حملت امي. خمسة بنين اعطت الى الحياة وخمس بنات، ولكنها لم تحاول الاجهاض قط الا حين جاء دوري، هذا ما كنت اسمعها ترويه منذ صغري. كانت مرهقة متعبة من عمليات الحمل والولادة والرضاع. فقد كانت تعطي كل عامين او كل عامين ونصف العام مولودا جديدا. يوم تزوجت كانت في الحادية عشرة من عمرها، ويوم وضعت ابنها البكر كانت لم تتم الخامسة عشرة بعد. واستمرت هذه الارض السخية - كأرض فلسطين - تعطي ابي غلتها من بنين وبنات بانتظام: احمد - ابراهيم - بندر - فتايا - يوسف - رحمي.. كان هذا كافيا بالنسبة إلى أمي، وآن لها ان تستريح، لكنها حملت بالرقم السابع على كره. وحين ارادت التخلص من هذا الرقم السابع ظل متشبثا في رحمها تشبث الشجر بالارض، وكأنما يحمل في سر تكوينه روح الاصرار والتحدي المضاد.

وصفت طوقان بلؤلؤة الكلام، وبنبتة الظلال التي تعانق المساء، الصوت الحنون الذي يستحضر الأمل وقت الظلمات، انها لم تكن وحيدة في نهاية رحلتها الجبلية، رحلتها الصعبة بحوادث وذكريات الزمن الجميل.

طافت الراحلة الكبيرة فدوى طوقان العالم مشاركة في مؤتمرات ولقاءات أدبية، تلتقي مع خبرات وقامات أدبية كثيرة.

وتحظى طوقان بالتقدير العالي في مختلف المحافل الثقافية والأدبية، وسبق ان حصلت على الكثير من الجوائز الأدبية الرفيعة: جائزة الزيتونة الفضية الثقافية، جائزة عرار، وجائزة سلطان العويس، وسام القدس، جائزة المهرجان العالمي للكتابات المعاصرة، جائزة بابطين للإبداع الشعري، شهادة الاستحقاق الثقافي، وجائزة كفافيس اليونانية وغيرها... وكل هذه الثروة من التجارب والذكريات الجميلة تشكل زاد فدوى في وحدتها المتجددة، بعد أن فارقت القلم وفارقها الكتاب والشاعرة طوقان وهي تغيب اليوم فستبقى بروحها المتمردة، الهائمة تتجدد مع كل ما هو جميل وأصيل من الشعر.

من جهته قال امين عام وزارة الثقافة الفلسطينية الروائي الفلسطيني يحيى يخلف انه برحيل الشاعرة فدوى طوقان، فقدت الأمة العربية اكبر شاعرة عربية معاصرة، وان وزارة الثقافة، وهي تنعى شاعرتنا الكبيرة بألم عميق، واحساس بالخسارة الفادحة تدرك ان تراث سنديانة فلسطين وأم الشعراء فدوى طوقان، باق ومستمر جيلا بعد جيل. فقد بدأت مسيرتها الشعرية منذ اكثر من ستين عاما، إذ شاركت على صفحات مجلات وصحف عربية كثيرة، مع نازك الملائكة وبدر شاكر السياب في العراق، وصلاح عبدالصبور في مصر، وغيرهم من رواد الشعر العربي الحديث، في تطوير حركة الشعر العربي، وتجديد مضامينه الاجتماعية والوطنية، واشكاله الفنية. وكان ديوانها الاول «وحدي مع الأيام» باكورة الدخول المتوهج الى هذه المشاركة العميقة، على رغم انه كان مفعما بالاحزان على شقيقها الشاعر ابراهيم الذي توفي في سن مبكرة حتى لقبت بسبب بكائها الطويل عليه، خنساء فلسطين، امتدادا لمراثي الخنساء العربية التراثية على شقيقها صخر.

واضاف: كان ابراهيم طوقان الشاعر الذي طبقت شهرته الافاق في فلسطين وبقية الدول العربية في مطلع القرن الماضي (1905 - 1941) قد اعطى كل جهده التثقيفي ووقته وحنانه لشقيقته الصغرى فدوى فصقل موهبتها الشعرية وشجعها على النشر، لتصبح شاعرة معروفة وقادرة على فرض احترامها على المجتمع التقليدي آنذاك، فبعد ان كانت تنشر بأسماء مستعارة تحت ضغط هذا المجتمع انطلقت للنشر باسمها الصريح، بقامة عالية، فتحت من خلالها آفاقا جديدة، ليس للقصيدة فحسب، وانما للمجتمع نفسه ايضا وخصوصا للمرأة ودورها الفعال فيه.

وعن اصدارات الراحلة تتابعت الاصدارات الشعرية لفدوى طوقان، مرحلة بعد اخرى، على امتداد العواصم العربية. بعد «وحدي مع الأيام» كان اصدارها الثاني «وجدتها». ولم يكن بالصدفة هذا العنوان، فهو يشير الى ان شاعرتنا الكبيرة كانت قد «وجدت» نفسها، وانطلقت من دائرة الاحزان التي حاصرتها في حارة «الياسمينة» كبرى حارات نابلس التي ترعرعت فيها واحبتها واحتضنت صباها، الى فضاءات الشعر التي تألقت امامها في كل مكان. ثم كان اصدارها الثالث «اعطنا حبا» وقد نضجت تجربتها الشعرية، واتسعت للحب الانساني الشمولي الذي تتربع فوق ذروته فلسطين، ونكبة العام 1948، وتواصلت مجموعاتها الشعرية، عن دار الآداب في بيروت، وغيرها من دور النشر العربية، من «امام الباب المغلق» الى «على قمة الدنيا وحيدا» الى «الليل والفرسان» الى «تموز والشيء الآخر» الى «قصائد سياسية»، وصولا الى سيرتها الذاتية التي اصدرتها في كتابين، الاول بعنوان «رحلة جبلية، رحلة صعبة»، والثاني «الرحلة الاصعب».

كانت فدوى طوقان قد حملت خلال هذه المسيرة الطويلة عدة ألقاب اسبغها عليها شعبنا الفلسطيني، والأمة العربية، والحركة الثقافية العربية بشكل عام، منها «سنديانة فلسطين» و«أم الشعراء» تعبيرا عن وفاء الأمة والحركة الثقافية لشاعرتنا الكبيرة.

وقد حصلت شاعرتنا الكبيرة عن جدارة وبما يليق بمكانتها الشعرية الراسخة، على عشرات الجوائز الفلسطينية والعربية والدولية، وترجمت قصائدها الى لغات كثيرة، وقدمت عن شعرها وحياتها، رسائل واطروحات جامعية متنوعة، وعلى مدار عدة اجيال، تدرس قصائدها في معظم المراحل التعليمية في فلسطين، وفي كثير من الاقطار العربية.

ان خسارتنا برحيل فدوى طوقان فادحة ومؤلمة، الا ان عزاءنا الكبير هو بما خلفته لنا، وللعرب اجمعين، من مجموعات شعرية تفيض باشراقات جبال فلسطين، وبحر فلسطين، وحارات وقرى ومخيمات فلسطين، وبسيرتها الذاتية التي تشحن بنا الأمل والقدرة على مواجهة الصعاب والتغلب عليها، ان تراث فدوى طوقان باق تماما كما يبقى الجبلان جرزيم وعيبال في نابلس، تراثا حضاريا وانسانيا تحيا به الاجيال، وتحفظه، وتضيف اليه، عهدا بعد عهد





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً