العدد 467 - الثلثاء 16 ديسمبر 2003م الموافق 21 شوال 1424هـ

التقاء المهزلة بالدم عند دجلة والفرات

بين خيمة الخراساني وحفرة صدام

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

العراق، وما أدراك ما العراق؟ بلد الثارات والدم الجاري بموازاة دجلة والفرات. هناك على أبواب المدائن نصبت خيمة في العراء، جلس وسطها الخليفة العباسي الثاني أبوجعفر المنصور الدوانيقي والشرر يتطاير من عينيه، ووقف وراء الأستار أربعة من الجند، وجيء بأبي مسلم الخراساني مكبّلا، فأخذ الدوانيقي يصرخ فيه: «أو تتجرأ عليّ فلا تهنئني بالخلافة؟ أوَ تتقدم عليّ في الشرب وتعكّر الماء في طريق العودة من الحج؟ أوَ تريد أن تتزوج عمتي وما أنت إلا عبدٌ من عبيدي؟»... هذا والخراساني يرتعد، ولكي يفلت من غضب المنصور حاول يائسا التودد إليه بقوله: «استبقني لعدوك يا أمير المؤمنين»، فرد عليه المنصور محنقا: «لا أبقاني الله إن أبقيت عليك، وهل لي من عدوٍّ غيرك؟» وصفق بيديه فاقتحم الجند الأربعة الخيمة ليهووا على الخراساني بأسيافهم في لمح البصر، فسقط يتلوى تحت ضرباتهم، وأخيرا انتفض الجسد المقطع الانتفاضة الاخيرة وخمد، فوقف عليه «الخليفة» يرثيه قائلا: «رحمك الله يا أبا مسلم»! وهكذا انتهت الحلقة الأخيرة من مسلسل أبي مسلم الخراساني، الذي أقام دعائم الدولة العباسية، حتى قورن دوره في تثبيتها بدور الحجاج الثقفي في تدعيم الدولة الأموية من قبل.

وحين كنت أشاهد الشريط الذي بثه المحتلون الأميركان لأسيرهم صدام طوال يوم الاحد الماضي، كان شبح الخراساني يطلّ من ذاكرتي، كأنه هو، بلحيته الطويلة وشعره الملبّد المنفوش. تاريخٌ واحدٌ يجمع الرجلين، فالخراساني بدأ قائدا سفّاحا اشتهر بالفتك والشدة والاستهانة بسفك الدماء، حتى قُدّر عدد من قتلهم في رحلته على طريق الجنون الدموي التي دامت ربما ربع قرن بستمئة ألف قتيل. ومن سخرية الاقدار التي لا تعرف اللهو واللعب، ان نهايته كانت على يد من قضى حياته يسفك الدماء من أجله.

قاطع طرق ورقاب

يوم الأحد الماضي كان التاريخ يتملكني، ففوق سطح الحدث الآني كنت أقرأ بعض دروس ومهازل التاريخ. ما الفرق؟ أليست هي نسخة أخرى مكرّرة في هذه المهازل التي نسميها بفصول التاريخ العربي المجيد؟ اقرأوا واحكموا بأنفسكم، لنعرف هذا التاريخ الذي نغشّ به أنفسنا ولا نريد أن نصحّح رؤيتنا له، قبل أن يأتي الاميركان الغزاة ويكتبوا لنا تاريخنا وعقائدنا على رغم أنوف الجميع!

بدأ تثبيت رجله في السلطة بقتل حلفاء الأمس، وتصفية أعضاء حزبه، تحوّل بعدها ليدشّن حقبة جديدة في تاريخ العراق الدامي الكئيب. وتولّت أموال النفط التي أنفقها بسخاء على تجار الكلمة وفرسان الصحافة الرخيصة، رسم صورة المناضل الوطني، والزعيم القومي الملهم، والبطل المغوار الذي جدّد سيرة القعقاع التميمي. وفي إحدى شطحات الخيال استأجر له من مصر بعض الممثلين ليصوّروا له فيلما عن القادسية، ليقول: انا وارث البطولة العربية من دون منازع. وساعده على ذلك غياب تلك الزعامات العربية الطويلة القامة، ومن الطبيعي إذا حلّ الظلام استغلت الفرصة الخفافيش لتبرز تلك القامات القزمة لتشمخ بأنفها وتملأ الجو بالفحيح.

حزن على الطاغية

وفي شطحةٍ أخرى بعد 16 عاما من تفرّده بالسلطة، أراد أن يلعب لعبة السادات المكشوفة، فأجرى في العام 1995 أول استفتاءٍ حول رئاسته، وأعلن حصوله على 99,96 في المئة من أصوات الناخبين! وبعد سبعة أعوام نظم الرجل «انتخابات» اقتصرت عليه وحده، وأعلن حصوله على 100 في المئة من الأصوات! ضحكٌ على ذقون الشعوب، واستخفاف بعقولها، وتزوير لإرادتها، ثم يحتج البعض لانه شاهد آثار ابتهاج هذا الشعب لاعتقال حاكمه الذي زور إرادته طوال ثلاثين عاما وساقه من حرب إلى حرب، فيما كان يهتف له بالأمس. وينسى هؤلاء انه في حكم الانظمة المستبدة لا خيار للشعوب في تحديد مصائرها، فهي رهن إشارة الحاكم، تنام إن أراد، وتقفز من سريرها إلى جبهة القتال إن شاء.

البعض حزن؛ لأن من قبض على صدام هم الاميركان، ولم يكن هناك داعٍ للحزن إلا بمقدار ما يستدعيه الحزن على الخراساني من قبل، ألم يقاتل الرجل متطوعا نيابة عن الغرب طوال ثماني سنوات عجاف، وحفاظا على المصالح الغربية، حتى قادته سياساته المجنونة إلى نهايته، لتكون على يد من قضى حياته يسفك الدماء من أجله. وعلى من يدعي ان التاريخ لا يعيد نفسه أن يكشف لنا الفرق بين خيمة الخراساني في المدائن، وبين حفرة صدام تحت مياه دجلة في تكريت

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 467 - الثلثاء 16 ديسمبر 2003م الموافق 21 شوال 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً