يلفت الانتباه ورود اسم الجمهورية الألمانية في عدد كبير من أعمال العنف التي تم تحميل مسئوليتها منظمات إسلامية متطرفة. ولا شك في أن أبرز أعمال العنف التي سيتذكرها العالم على الدوام، الهجوم على نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر/ أيلول 2001. وهذه الجريمة بالذات، ترتبط باسم ألمانيا لأن خلية محمد عطا التي نفذت هجوم الطائرات على مركز التجارة العالمي، كان أفرادها وفي مقدمتهم المصري عطا، يدرسون في معاهد بألمانيا وعاشوا سنوات في مدينة هامبورغ. وعلى أرض ألمانيا تم اعتقال مجموعة من الأصوليين بينهم المسئول المالي لأسامة بن لادن وشيخ يمني تم تسليمه أخيرا إلى السلطات الأميركية التي تشتبه في أنه كان يجمع التبرعات لمنظمة «القاعدة». وتعتقد مصادر المخابرات أن ألمانيا تأتي بعد فرنسا وبريطانيا كثالث دولة أوروبية تشكل محطة يتمركز فيها أصوليون.
وفي الأسبوع الماضي ألقت سلطات الأمن الألمانية القبض على كردي عراقي يبلغ 29 عاما من العمر خلال وصوله إلى محطة القطارات الرئيسية في مدينة ميونيخ ويشتبه في أنه يعمل ضمن خلية سرية تخطط للقيام بأعمال عنف وتهريب أسلحة داخل أوروبا. وأشار رئيس مكتب الجنايات الفيدرالي أولريش كيرستن إلى أن عمليات إلقاء القبض المتعاقبة لإسلاميين متطرفين داخل ألمانيا وعلى حدودها تكشف أن ألمانيا واحدة من البلدان الرئيسية التي ينشط الأصوليون داخل أراضيها ويستغلون الحدود المفتوحة داخل البلدان الأوروبية التابعة لاتفاق تشنغن والسفر بجوازات سفر أوروبية بعضها مزور. وكشفت صحيفة «زود دويتشه» الصادرة في ميونيخ أن المدعو (محمد ل) كان يعمل في تهريب مواطنين عراقيين إلى ألمانيا بينهم مجموعة من الإسلاميين المتطرفين لهدف القيام بعمليات انتحارية ضد أهداف أميركية داخل ألمانيا. وأوضحت الصحيفة نقلا عن مصادر أمنية رفيعة المستوى في ولاية بافاريا أن (محمد ل) ينتمي إلى تنظيم «أنصار الإسلام» المسئول عن تفجير السفارة الأردنية ومقر الأمم المتحدة في بغداد. وكشفت الصحيفة أيضا عن الاعتقاد بوجود نحو مئة من مؤيدي «أنصار الإسلام» في ولاية بافاريا وعدد غير معروف منهم في سائر المناطق الألمانية. ويقول الألمان إن هذا التنظيم مثل «طالبان» يحرم سماع الموسيقى وارتداء الجينز.
وترد إلى برلين باستمرار تقارير من بلدان أجنبية تشعر الألمان بأن بلادهم أصبحت منذ وقت ساحة للأصوليين. قبل أيام أبلغتها الحكومة الروسية أن المواطن الألماني توماس حمزة الذي ينحدر من مدينة أولم البافارية ولم يتجاوز سن الـ 25، قتل على أيدي جنود روس تابعين إلى وحدة عسكرية خلال اشتباك وقع معهم في الشيشان. توماس حمزة الذي اعتنق الإسلام، هو ثالث ألماني يدفع حياته ثمنا للقتال مع الثوار الشيشان.
وتعتقد المخابرات الألمانية أنه لم يعد من المستبعد ورود مثل هذه الأنباء من العراق. ذلك أن أجهزة الأمن الألمانية تراقب منذ أسابيع أن الإسلاميين الذين يقيمون داخل ألمانيا يتابعون باهتمام شديد أخبار المقاومة ضد الاحتلال الأميركي وحلفائه في العراق وتعتقد هذه الأجهزة أن بعض المقاتلين توجهوا إلى العراق. وأبلغ رئيس المخابرات الألمانية أوغوست هانينغ مجلة «دير شبيغل» في عددها الأخير أن جهازه على علم بسفر مقاتلين إلى العراق عن طريق بلدان مجاورة. لكن ليس لدى أجهزة الأمن الألمانية فكرة محددة عن هدف الزيارات التي يقوم بها عدد من الإسلاميين الألمان الذين يزورون بلدانهم الأصلية لكن لا أحد يعرف أهداف وجودهم حاليا بعدد كبير في «الشرق الأوسط». غير أن اعتقال (محمد ل) والحصول في شقته على جوازات سفر ورخص قيادة مزورة عزز مخاوف الألمان من أن أوروبا وألمانيا خصوصا، أصبحتا ساحة نشطة للأصوليين.
لا أحد يملك معلومات عن مؤسس تنظيم «أنصار الإسلام» أكثر من المخابرات الألمانية. فقد نجحت منذ البداية في تعقب اتصالاته مع مؤيديه داخل ألمانيا وألقت القبض على عدد منهم فيما يستعد المدعي الفيدرالي العام كاي نيهم لإحالتهم إلى المحاكمة. وليس هناك أكثر سوى صورة واحدة يظهر فيها أبومصعب الزرقاوي الذي كان يشرف على معسكر تدريب تابع لمنظمة «القاعدة». واشتهر اسم الزرقاوي الذي ينحدر من الأردن خلال الأزمة العراقية حين اتهمت واشنطن الرئيس العراقي السابق صدام حسين بالتعاون مع «القاعدة» لتبرير غزو العراق وان الزرقاوي أجرى محادثات مع مسئولين عراقيين في بغداد لكن المخابرات الألمانية دحضت الاتهامات الأميركية وأكدت عدم وجود صلة بين العراق و«القاعدة». وأصدر المدعي العام الفيدرالي في ألمانيا منذ اشهر مذكرة توقيف بحق الزرقاوي الذي فقد إحدى ساقيه خلال حرب المجاهدين ضد الاحتلال السوفياتي، ويتهمه بالانتماء إلى تنظيم إرهابي وتحريض مؤيديه في ألمانيا على القيام بأعمال عنف.
ولا تعتبر أجهزة الأمن الألمانية أن الأسفار التي يقوم بها الأصوليون من المطارات الألمانية ظاهرة جديدة. ففي السابق سافرت مجموعات منهم للمشاركة في القتال في أفغانستان والبوسنة وحمل مسلمون من ألمانيا السلاح إلى جانب إخوانهم في هذين البلدين. لكن اهتمام دوائر الأمن الألمانية زاد بسبب تأجج نار حرب المقاومة الدائرة داخل العراق ضد الاحتلال الأجنبي، وغير معروف ما إذا طلبت الولايات المتحدة من الحكومة الألمانية كبح جماح الإسلاميين داخل أراضيها منعا للنجاح في سفرهم إلى العراق لمحاربة الجنود الأميركيين. ليس هناك مكاتب سفر للمقاتلين على غرار ما تم تنظيمه خلال حربي أفغانستان خلال الاحتلال السوفياتي وحرب البوسنة. ويقول رئيس المخابرات الألمانية إن «أنصار الإسلام» الذي تأسس في المناطق الكردية العراقية، ينشط في التعاون مع مقاتلين يأتون من خارج العراق.
الموضة الجديدة التي يروجها الأصوليون في ألمانيا وأوروبا هي أفلام الفيديو التي تظهر فيها مشاهد الحرب في الشيشان وتحرض على مشاركة الثوار الشيشان حربهم ضد جيش الاحتلال الروسي. والجديد أن أفلام الفيديو التي يجرى تناقلها بسرية لكنها منتشرة في بلدان عربية وفي إندونيسيا وماليزيا أيضا، تظهر فيها صور التفجيرات التي تنفذها المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأجنبي. وتشير بيانات جهاز «بي ان دي» إلى أن غالبية الشباب الذين يسافرون إلى الحرب، هم تحت سن الثلاثين ويعيشون على المعونات الاجتماعية وبعضهم يعمل أحيانا في محلات بيع الشاورما التركية (دونر كباب) وغالبيتهم ليس لديهم عائلات في ألمانيا. وأعلنت الحكومة الأميركية ضمن الحملة الدعاوية التي تقوم بها بعد أن حولت حرب العراق إلى مواجهة ضد الإرهاب، أنها شددت رقابتها على حدود العراق مع البلدان المجاورة. ويرى رئيس المخابرات الألمانية، هانينغ، أن حرب المقاومة في العراق ستجتذب الإسلاميين من أنحاء العالم تماما مثلما اجتذبت حرب المجاهدين في أفغانستان إخوانا لهم من أنحاء العالم. بالنسبة إليهم فإن حرب المقاومة في العراق، مقدسة مثلما هو مقدس أن يستشهد المرء في الفلوجة وهو يفجر نفسه في جنود الاحتلال.
أول علامات تصدير المقاتلين من أوروبا إلى الساحة العراقية، التحذير الصادر عن فرنسا على لسان القاضي جان لويس بروغير الذي صرح بأنه منذ نهاية الصيف الماضي توجه عشرات المقاتلين الإسلاميين إلى العراق. وفي القاهرة اعتقلت سلطات الأمن 27 شخصا يعتقد أنهم كانوا يخططون للسفر إلى العراق. وسقط أول قتيل جاء من مدينة شيفيلد البريطانية يدعى وائل الدهلائي الذي ينحدر من اليمن، وكان من المرشحين للمشاركة في الألعاب الأولمبية المقبلة في أثينا. ويقال إنه قتل خلال عملية انتحارية في شهر أكتوبر/ تشرين الأول/ الماضي وترك وراءه زوجة وطفلا. وأعادت السلطات السورية مواطنين ألمانا من أصل عربي كانوا يخططون لمتابعة السفر إلى العراق، بينهم رجل من أصل جزائري تقول السلطات الإيطالية إنه سعى في ميلانو إلى تجنيد مقاتلين للحرب. ويشكو نائب رئيس البوليس السري الألماني في ولاية هامبورغ مانفرد موكه من عدم وجود قانون يمنع سفر المواطنين الألمان إلى العراق والمشاركة في محاربة الجنود الأميركيين. لكن قلق مسئولي الأمن في أوروبا ليس بسبب المقاتلين الذين يتوجهون إلى العراق بل الذين يفلحون في العودة إلى أوروبا لأنهم يتحولون إلى أبطال في نظر إخوانهم وتصبح لهم اتصالات مع أصوليين في دول أخرى ويصبح خطرهم من دون حدود
العدد 465 - الأحد 14 ديسمبر 2003م الموافق 19 شوال 1424هـ