وأخيرا... وقع صدام حسين في المصيدة، ففي مثل هذا اليوم التاريخي يقف القلب متوجسا... ويتذكر أياما مماثلة له في التاريخ، وكم في التاريخ من عبر وأمثولات... ولكن أين المعتبرون؟
حكم الأمويون العالم الإسلامي بتلك السيرة المنكرة، فلما أذن الله لملكهم بالزوال أرسل عليهم تلك الرايات السود من الشرق، تلاحقهم تحت كل حجرٍ ومدر، فلم يبقَ منهم إلا شرذمة قليلون، تاه بعضهم في جنوب أسوان حتى قضى عليهم الجوع والعطش، ونجا منهم واحدٌ طريد شريد، استطاع أن يعبر النهر والبحر حتى وصل إلى الأندلس ليجدد «فقاعة» أخرى من حكم الأمويين في شبه الجزيرة الأيبيرية، على المنهاج اللاهي الساهي غير الرشيد.
وجاء العباسيون ليحكموا العالم الإسلامي الكبير على نهج لم يختلف عن سابقيهم، وليعششوا في الحكم خمسة قرون، جمّدوا خلالها هذه البقعة الممتدة من سواحل الأطلسي إلى سفوح الهملايا وتخوم الصين. فلما جاء أمر الله دخل الجنود القادمون من الشرق أيضا، من بلاد ما وراء النهرين، ليجهزوا على آخر الخلفاء العباسيين، فيلفظ آخر أنفاسه رفسا بأحذية الجنود الطوال كما يقول المؤرخون.
عِبَرٌ وأُمثولات، ما أكثرها... وما أقل المعتبرين.
ويوم أمس الأحد 14 ديسمبر/كانون الأول، سيُسَجّل يوما مذكورا في التاريخ، لما شهده من اعتقال وحش العراق الكاسر، الذي أحيا نهج الحجاج وسار على منوال الفراعنة وساق الشعب العراقي المبتلى في حروبٍ بدأت أولها في أول يوم قفز فيه إلى السلطة، ولم تنتهِ بسقوط بغداد في أيدي الغزاة الاميركيين -القادمين من الغرب هذه المرة- قبل ثمانية أشهر.
يوم أمس تسمّر ملايين الناس أمام شاشات التلفزيون، ليستقبلوا ما تبثه من أخبار تَرِدُ تباعا، ولتقرأ بأعينها بعض الدروس التي يكرّرها التاريخ في كل جيل. أول هذه الدروس، هو ان كل البهرجة الإعلامية التي تحيط بالطاغية لن تفيده يوم انتهاء أجله. وان ولاء الشعوب لا يشترى بإثارة الرعب وتمكين الأجهزة السرية من أرواح وأعراض وأموال المواطنين. وان الطاغية مهما قيل وكُتب و«سُوّق» عن فروسيته وبطولته وعظمته، سيعود إلى حجمه الطبيعي، فأرا مذعورا، حين تدور عليه الدوائر.
الطاغية عند التمكن يسطو ويستطيل، وعند الهزيمة يفر فرار النعامة المرعوبة. في ميدان القتال يرسل بأبناء الفقراء يبنون له بجماجمهم مجدا يستمد نسغه من دماء المعذبين، وعندما تحين ساعة مواجهة الحقيقة يختبئ في قبو أشبه بالقبر. لم يجرؤ حتى على حمل مسدس من تحت وسادته ليواجه «الجبناء المجرمين الأميركيين»، وهو الذي كان يحثّ جنوده من عليائه على الإقدام والقتل والتدمير، فدفعت إيران المسلمة الثمن، ودفعت الكويت العربية ثمنا آخر، ودفعت دول الخليج المجاورة أثمانا أخرى، ودفع الفلسطينيون والعالم العربي الضريبة الكبرى، مزيدا من التشتت والتشرذم والضعف والهوان، أما الثمن الأكبر فدفعه العراقيون... دم ظلّ يُسفك مجانا على مدار ثلاثين عاما، قربانا على معبد الإله صدام العظيم!
هل من دروس أخرى؟ الهالة الإعلامية الكاذبة التي بناها الطاغية بأموال النفط والدولار التي كانت تدفع أقساطا وتحوّل في الحسابات الخاصة عبر «مصرف الرافدين»، في مختلف العواصم والبلدان، كل تلك الأموال انطبق عليها قول الحق تعالى: «فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِم حَسْرَة ثم يُغلَبُونَ» (الأنفال: 36). ومهما أنفق من أموالٍ لبناء الأسطورة فسرعان ما تزول الأوهام عندما تطل أول أشعة شمس الصباح.
ويجب ألاّ تنسوا وسط الغبش والضباب أن الرجل شبعت أقدامه من التقبيل، كما شبعت يداه من التقتيل... ولكن لمّا حان حينه أسلمته الأقدار فأرا ذليلا مذعورا إلى يد الأميركان، لتكتمل الحلقة الأخيرة من مسلسل الدم والدمار: مخابراتهم هي التي أحضرته إلى السلطة فوق دبابةٍ، هدية مسمومة إلى العراقيين، وهم الذين خلعوه بثلة من الجند لم يزيدوا على بضع مئات...
الدرس الأخير ... صدقا ما قاله الإمام جعفر بن محمد (ع) في كلمة جامعة مانعة، من ان إزالة الجبال الراسيات من أماكنها أهون من إزالة ملك لم يأذن الله بزواله... «بَلاغٌ، فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القَوْمُ الفَاسِقُونَ»؟ (الأحقاف: 35
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 465 - الأحد 14 ديسمبر 2003م الموافق 19 شوال 1424هـ