ماذا يعني اعتقال صدام حسين التكريتي؟ الخبر بحد ذاته قنبلة صحافية إلا ان تداعياته أوسع بكثير نظرا لموقع صدام ودوره الخاص في تشكيل شخصية العراق في العقود الثلاثة الأخيرة. فالعراق قبل صدام يختلف عن فترة حكمه، كما هي حال العراق اليوم بعد سقوط نظام صدام وأخيرا اعتقاله. قصة صدام لم تنته بعد. فهو أشبه بحكايات «ألف ليلة وليلة»، والليلة الأخيرة لم تأت فهناك الكثير منها تنتظر دورها في محاكمة يتوقع - إذا كانت نزيهة وذكية - ان تكون أضخم حدث في المنطقة منذ رحيل جمال عبدالناصر في سبتمبر/أيلول 1970.
اعتقال صدام هو خبر كبير ولكنه ليس الخبر. فالخبر هو ما ستسفر عنه التحقيقات في حال تم استجوابه بأسلوب يريد فعلا معرفة الحقائق وكشف خفايا التاريخ. أما إذا تمت محاكمته بطريقة يغلب عليها طابع الانتقام والتشفي فإن وقائع التحقيق ستكون مجرد سرد لروايات معروفة عنه نقلت مشوشة من دون تدقيق وتمحيص.
الرد على صدام يتطلب إعادة تركيب للسيناريو منذ بدء اتصالاته السرية بالسفارة الأميركية في القاهرة ومن ثم بروز دوره الثانوي في فترة مطلع الستينات وأخيرا صعوده الغريب (المثير للشبهات) وصولا الى انقلاب البعث ثم انقلابه على الرئيس أحمد حسن البكر وتفرده بالسلطة الى حين سقوط بغداد.
والرد أيضا يجب ان يتميز بالحاجة الى كشف الحقائق وعدم الاكتفاء بإعلان جزء منها وتغطية الأجزاء الأخرى وخصوصا تلك العلاقة الخاصة التي ربطته بأجهزة فاعلة في واشنطن و«البنتاغون» وتحديدا في فترة حربه على إيران.
الاتهامات ضد صدام كثيرة بدءا باغتيال ابن أحمد حسن البكر في حادث سير غامض الى تصفيات واغتيالات ضد خصومه من حزب البعث الى ضربات انتقامية ضد مراكز قوى في الدولة والجيش وصولا الى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها إبان حكمه ضد كل الفئات والطوائف والمذاهب والأقوام والعائلات والأسر التي خالفت قراراته او شك في انها غير منسجمة مع توجهاته.
والسؤال: هل تكون المحاكمة على هيئة جدية للتحقيق وكشف الحقائق، أم ستتحول الى مجرد جهاز إعلامي للدعاية والنشر و«فبركة» معلومات وتسريبها للصحف ووكالات الأنباء لكسب العطف والبطولات؟
هذا السؤال له صلة بالمستفيدين من اعتقال صدام والمتضررين من اعتقاله. وفي طليعة المستفيدين سياسيا الشعب العراقي بينما جورج بوش هو أكثر المستفيدين إعلاميا. فالرئيس الأميركي أكثر الناس الآن حاجة الى مثل هذا الخبر حتى ترتفع معنوياته بعد سلسلة نكسات هددت احتمال إعادة انتخابه لرئاسة ثانية. بوش الآن في أفضل حالاته وهذه ربما أفضل هدية تلقاها في حياته عشية استعداده للاحتفال بعيد الميلاد ورأس السنة. فاعتقال صدام بالنسبة الى بوش صفقة تجارية - إعلامية تغذي أحلامه وطموحاته لفترة أسابيع وأشهر. إلا ان اعتقال صدام بالنسبة الى الشعب العراقي مسألة مختلفة. فصدام شخصية خلافية على رغم ما اقترفه من اخطاء وآثام وجرائم في حياته السياسية وسيرته الذاتية. فهو رئيس الدولة ومجرم حرب، وهو «لص بغداد» للكثير من قطاعات الشعب وفي الآن هناك من يعتبره الراعي الأكبر لصعود فئات هامشية من الناس الى أعلى درجات هرم السلطة والحزب والجيش.
مسألة صدام حساسة وعلى الهيئة التي تريد ان تشرف على ترتيب محاكمته والتحقيق معه ان تكون على مستوى المسئولية التاريخية؛ لأن أهمية الاعتقال تكمن في الرسائل السياسية التي يمكن توجيهها الى مختلف فئات المجتمع التي تتركب منها الدولة. فمحاكمة صدام إذا تمت بأسلوب راق وحضاري فمعنى ذلك ان العراق تجاوز المحنة فعلا وبات في وضع يسمح له بالتفاخر كدولة جديدة (حرة ومعاصرة). فالمحاكمة قد تكون نقطة تحول في تاريخ العراق وبداية عاقلة في إعادة تأسيس دولة مشتركة بعيدة عن الحساسيات والانفعالات والعصبيات. أما إذا تمت المحاكمة في مناخ متوتر وتحقيقات مضطربة فإن صدام سيتحول الى واجهة خفية تتعسكر خلفها او في داخلها مختلف تلك الموروثات السلبية التي عاش النظام السابق على تغذيتها واللعب بها.
العراق الآن دخل في منعطف كبير، وهذا يحتاج الى قيادة تتمتع بحس تاريخي تستطيع ان تستفيد من المحاكمة كعبرة للزمن والاجيال وتعطي قوة ومناعة لدولة العراق في المستقبل.
ان اعتقال صدام وظروف أسره السهل وعدم مقاومته للمهاجمين يؤكد مجددا روايات قيلت عن ضعفه الشخصي وجبنه وخوفه على حياته وعدم استعداداه للتضحية بنفسه في وقت يعرف تماما مستوى «الإهانات» ونوعية «البهدلات» التي سيتعرض لها في حال اعتقاله ومحاكمته. ومع ذلك فضل تسليم نفسه بدلا من الموت دفاعا عن شرفه. إنها سخرية التاريخ والمؤسف فيها انها تمت بإشراف أميركي... وهذا عين السخرية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 465 - الأحد 14 ديسمبر 2003م الموافق 19 شوال 1424هـ