العدد 2339 - الجمعة 30 يناير 2009م الموافق 03 صفر 1430هـ

مفارقات سياسية تجاه أزمة غزة

عزوز مقدم Azzooz.Muqaddam [at] alwasatnews.com

كشف العدوان الإسرائيلي البربري الأخير على قطاع غزة وآثاره المستمرة حتى بعد انقشاع ضراوته، خللا في المواقف المختلفة لبعض القوى ووسائل الإعلام العالمية، وأظهر كيف أن السياسة الدولية تسير دائما في الاتجاه المعاكس للعدالة والإنسانية. فهناك تناقضات واضحة إذا ما توقف عندها المرء وتأملها جيدا لا يجد لها تفسيرا منطقيا سوى أن الكثيرين يسايرون في غالبية الأحيان جانب الغالب لا المغلوب... والمعتدي وليس الضحية... والقوي قبل الضعيف. وعليه سنتطرق هنا إلى بعض هذه المواقف المتخاذلة التي تكيل الأمور المتعلقة بقضية غزة دائما بمكيالين.

لقد رأينا في الوقت الذي لايزال فيه سكان قطاع غزة يلملمون جراحهم، ويدفنون شهداءهم، ويسألون عن مفقوديهم، وفي الوقت الذي تكرس فيه كل قوى الخير والسلام في منطقتنا جهودها لإغاثة هؤلاء المنكوبين،ورفع الحصار الجائر عنهم، في هذا الوقت العصيب ترسل فرنسا فرقاطة حربية لمراقبة شواطئ غزة مما أسمته مكافحة عمليات تهريب السلاح إلى حركة حماس، وكأن الأولوية في هذه المرحلة هي حماية «إسرائيل الضحية» وليس منع الموت البطيء لنحو 1.5 مليون نسمة محاصرين منذ عامين. هذا الموقف الفرنسي استفز مشاعر العرب والمسلمين، ونسف كل المساعي الحميدة التي أبداها وقام بها الرئيس نيكولا ساركوزي بعد أسبوع من العدوان نفذت خلاله الدولة العبرية أكثر من 700 غارة جوية. وكشف هذا الموقف الفرنسي الأخير أن تحرك ساركوزي كان تآمريا ضد الفلسطينيين، ولمصلحة «إسرائيل» بالدرجة الأولى وإن وضع في إطار مصري. وتأكد لدى الجميع أن الحكومة الفرنسية مازالت تسير بعقلية إدارة المحافظين الجدد السابقة في الولايات المتحدة، والتي لاقت سياستها فشلا ذريعا في الشرق الأوسط.

أما المفارقة الثانية في هذا النزاع فهي موقف هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» الرافض لبث نداء إغاثة للمنكوبين في غزة بحجة المحافظة على حياديتها. ولا أعلم على أي مبدأ استندت هذه الهيئة التي كانت في يوم من الأيام مضرب المثل في نقل الرأي والرأي الآخر،لتعتبر مناشدة إنسانية انحيازا سياسيا للفلسطينيين من دون الإسرائيليين فالأزمة الإنسانية في غزة حقيقة واقعة وليست فرضية سياسية. قرار الإذاعة البريطانية اتخذه إداريون وليس صحافيين فقد استنكر هذا الموقف كثير من الصحافيين الكبار الذين عملوا في «بي بي سي»سابقا،ناهيك عن الشجب من قبل الحكومة البريطانية ممثلة في وزير الصحة وكذلك الكثير من النواب البريطانيين.

إن موقف الـ «بي بي سي» من النداء يعني أمرين كل واحد منهما ينسف سمعة هذه الهيئة حيث أن الامتناع عن البث قد يلمح إلى أن جمع التبرعات للفلسطينيين هو استعداء لـ»إسرائيل» كما قد يعني أن العمليات العسكرية لا تخلف ضحايا. وفي السياق ذاته، يعني هذا الموقف أن الهيئة لا تثق في النضج الفكري لجمهورها. ولذلك فإن أبسط قوانين الحرب تحظر على المتحاربين منع غير المتحاربين من الحصول على الإغاثة.

وفي الواقع بثت «بي بي سي» من قبل نداءات إغاثة لمنكوبي الحروب في الكونغو ورواندا، وخصصت يوما لجمع التبرعات في إطار عملية»اجعلوا الفقر شيئا من الماضي» فيما يعد خرقا لهذا الحياد السياسي الذي تتحدث عنه الآن، لأن كثيرا من الاقتصاديين وحتى بعض الجمعيات الخيرية تنتقد بشدة تكريس اعتماد بعض الدول الإفريقية على المساعدات الخارجية.

أما الموقف الذي مازال أكثر غموضا في الساحة فهو تغير اللهجة التركية هذه الأيام تجاه حركة حماس. فقد أخذت الحكومة التركية تنتقد بشدة الحركة الإسلامية الفلسطينية وكأنها تريد معاتبتها على التسبب في اندلاع القتال في غزة. يتناقض هذا الموقف مع تعاطف رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان مع أهل غزة أثناء وبعد العدوان وانسحابه الخميس من منتدى دافوس بسبب وجود شيمعون بيريز، ويتزامن التغير في الموقف مع تسلم أنقرة لطائرات إسرائيلية من طراز هيرن من دون طيار تستخدم لأغراض الاستكشاف والمراقبة الجوية. ويتضح من تغير الموقف التركي أن ردود الفعل العنيفة التي أبداها اردوغان في البداية ربما كانت مجرد فقاقيع لامتصاص غضب الشارع التركي الذي هب عن بكرة أبيه في موجة عارمة وصفتها منظمات يهودية عالمية بأنها ثورة معادية للسامية.

وهناك تناقض آخر فاجأنا به المبعوث الأميركي للسلام في الشرق الأوسط جورج ميتشل، الذي بدلا من أن يستمع لجميع الأطراف في أول جولة له في المنطقة،تحول إلى متحدث باسم الدولة الصهيونية، مؤكدا أن أي تسوية للصراع لابد أن تقوم على منع تهريب السلاح إلى غزة، وان لا تفتح المعابر إلى القطاع لا بموجب اتفاق العام 2005 في هذا الشأن، فقد اختزل القضية برمتها في المعابر وتهريب السلاح. ويعني هذا انه لن تجرى عملية إعادة إعمار، وسد رمق الجوعى من المنكوبين حتى تعود السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس إلى غزة. وببساطة يعني موقف المبعوث الأميركي عزل حماس وبقية الفصائل المقاومة تماما عن أية تسوية بينما الواقع الميداني يتطلب إشراكها. يأتي هذا الموقف بعد تشاور ميتشل مع القاهرة ورام الله اللتان تريان أن تشكيل حكومة وحدة وطنية له الأولوية على إغاثة الضحايا وإعادة الاعمار، بينما ترى الحكومة الفلسطينية المقالة برئاسة إسماعيل هنية أن رفع الضرر وتعويض أهل غزة مقدم على الحديث عن المصالحة الوطنية.

وفي خضم هذه التناقضات سارعت دول عربية أخرى إلى تدارك مواقفها أثناء الحرب خشية نبذها من قبل الإدارة الأميركية الجديدة. فحكام موريتانيا الجدد قالوا إن تجميد العلاقات مع «إسرائيل» الذي أعلنوه في قمة الدوحة لا يعني طرد السفير الصهيوني من نواكشوط بينما خف السفير الأردني لدى «إسرائيل» عائدا إلى مقر عمله في تل أبيب بحجج واهية. وهكذا ضاع الناس في غزة بين مطرقة عناد المقاومة وتشبثها بمواقفها في ظل شعبية داخلية لا بأس بها، وسندان معارضي التحرر والاستقلال ومن دار في فلكهم رغم أن عملية السلام التي حيكت في أوسلو أخفقت في أن تأتي بثمار بعد مرور 20 عاما على انطلاقها.

إقرأ أيضا لـ "عزوز مقدم"

العدد 2339 - الجمعة 30 يناير 2009م الموافق 03 صفر 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً