المواجهة الكلامية التي حصلت في قمة «دافوس» الاقتصادية بين الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز ورئيس الحكومة التركي رجب طيب أردوغان على خلفية جرائم الحرب التي ارتكبتها «إسرائيل» ضد أهالي قطاع غزة في عدوانها الأخير يكشف عن خلفيات سياسية بدأت ترتسم معالمها الميدانية في خريطة «الشرق الأوسط الجديد».
المواجهة الكلامية لا تعني بالضرورة بداية انقطاع لتلك العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية بين الطرفين بقدر ما تعكس درجة القلق التي أخذت ترتفع حدتها بين قوة إقليمية صاعدة تبحث عن دورها وقوة إقليمية بدأت تفقد زمام المبادرة بسبب نمو مراكز قوى تتنافس على النفوذ.
مصطلح «الشرق الأوسط الجديد» كان عنوان كتاب أصدره بيريز في تسعينات القرن الماضي بعد حرب الخليج الثانية (أزمة الكويت) وما أنتجته من تداعيات واتصالات عربية - إسرائيلية في «مؤتمر مدريد» وصولا إلى توقيع «اتفاقات أوسلو» بين تل أبيب ومنظمة التحرير الفلسطينية. فالكتاب جاء آنذاك ليرد على حاجات تطورات سياسية أخذت تنمو في دائرة «الشرق الأوسط» برعاية أميركية وبإشراف إدارة جورج بوش الأب.
حديث بيريز آنذاك عن «شرق أوسط جديد» لم يكن طلقة في سماء صافية وإنما أراد تأكيد دور «إسرائيل» الخاص في منظومة إقليمية أخذت تنقسم على محاور سياسية. ولكن فكرة بيريز التي طرحت في مناسبة معينة أثارت سجالات ونقاشات واعتراضات ما أدى إلى سحبها من التداول. حتى بيريز اعترف لاحقا بفشلها لأن الظروف الثقافية غير ناضجة لاستيعابها والأوضاع السياسية غير جاهزة لتقبلها.
غاب كتاب بيريز عن «الشرق الأوسط الجديد» من التداول إلا أن الفكرة لم تتبخر عن مؤسسات البحث التي استمرت في التخطيط المنهجي لتحويل النظرية إلى مشروع سياسي يمكن التأسيس عليه لبناء منظومة إقليمية بديلة عن جامعة الدول العربية وغيرها من هيئات عربية وإسلامية.
الآن وبعد مرور سنوات على فكرة «الشرق الأوسط الجديد» بدأ الحديث عن المشروع ينمو وسط تحولات شهدتها المنطقة خلال فترة إدارة جورج بوش الابن. فهذه الفترة التي امتدت ثماني سنوات ساهمت خلالها الإدارة الأميركية في تشكيل متغيرات ميدانية من طريق الإفراط في استخدام القوة واعتمادا على إستراتيجية التقويض. وأدت هذه الإستراتيجية الهجومية إلى كسر معادلات كانت مستقرة في أفغانستان وفلسطين والعراق ولبنان. وساهمت سياسة الكسر (التقويض) في إضعاف الدول العربية ومحاصرة منظمة التحرير الفلسطينية وعزل العراق وتقسيمه وشطب هويته العربية وإنتاج مراكز إقليمية ومحلية بديلة عن المنظومات السابقة.
إعادة إنتاج «الشرق الأوسط الجديد» تحت مسميات وهويات بديلة (شعوب مينا مثلا) أعطت فرصة للقوى الإقليمية المجاورة للعالم العربي أن تنهض على أنقاض حروب بوش الابن لتطالب بدور خاص يتناسب مع نفوذها وإمكاناتها وقدراتها على تطويع المتغيرات لمصلحة تعزيز موقعها. وفي هذا الإطار بدأت إيران تتدخل بناء على تلك المتحولات والمتغيرات. كذلك أخذت تركيا تتحرك بحثا عن موقع يتناسب مع حجمها ويعوض عليها دورها المفقود في إطار الاتحاد الأوروبي.
تعويض الدور المفقود
المشادة الكلامية التي حصلت في دافوس بين بيريز وأردوغان تعطي فكرة عن صورة الوضع المقبل عليه «الشرق الأوسط» في منظومته الجديدة. فهذه المساحة الإقليمية انكشفت جغرافيّا وأعطت فرصة للقوى المجاورة أن تنشط على أكثر من صعيد لتعبئة الفراغات السياسية والأمنية التي ظهرت ميدانيّا على امتداد الساحات المنكوبة من أفغانستان والعراق إلى لبنان وفلسطين.
القيادة السياسية في إيران أخذت ترسل إشارات واضحة للإدارة الأميركية الجديدة تبدي فيها استعدادها للتعاون مع واشنطن في الملفين العراقي والأفغاني. والقيادة السياسية في تركيا أخذت تتحرك على أكثر من صعيد لإعادة إنتاج دور خاص في دائرة «الشرق الأوسط» بعد أن أقفلت أوروبا أبوابها أمام طموحات أنقرة بدخول منظومة الاتحاد الأوروبي.
تركيا الآن في موقع أفضل من السابق. فهي تحاول أن تستثمر مركزها الجغرافي - الإستراتيجي لإعادة اكتشاف دور إقليمي يتناسب مع هويتها التاريخية والدينية. وهذه المحاولة تشكل خطوة ميدانية تعوض ما خسرته أنقرة من أوروبا التي لاتزال تتعامل مع تركيا بصفتها دولة عثمانية - مسلمة لا تستحق الاندماج في عالم مسيحي عاش سابقا لحظات رعب بسبب تلك المواجهات العسكرية العنيفة التي وصلت إلى عمق القارة وكادت أن تدخل فيينا (النمسا) والبندقية (إيطاليا) في مظلة الإسلام.
التاريخ الأوروبي لعب دوره الإيديولوجي ضد الجغرافيا وأدى إلى استبعاد تركيا ومنعها من الدخول في مظلة مسيحية تتحرك اقتصاديّا وسياسيّا تحت سقف السوق أو الاتحاد. وبسبب هذا الصد المتواصل كان على تركيا أن تبحث عن دور إقليمي يعوض سياسة العزل (الطرد الأوروبي) من جانب ويتناسب مع هويتها التاريخية والدينية من جانب.
البحث عن دور يتجانس مع الموقع الجغرافي والهوية الثقافية كان يحتاج إلى فرصة تاريخية تفسح المجال للتقدم بهذا الاتجاه من خلال إطارين: الأول دولي والثاني إقليمي. وهذا ما بدأ يتحقق ميدانيّا بعد تحطيم العراق وشطبه من معادلة الصراع العربي - الإسرائيلي وبعد إضعاف السلطة الفلسطينية من خلال تعمد إغلاق باب التسوية وكسر التمثيل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
هناك إذا فرصة دولية لتركيا لترتيب دور يتناسب مع الموقع والهوية في اعتبار أن أوروبا لم تعد تشكل المدخل التاريخي الوحيد للتقدم الاقتصادي نظرا إلى نهوض مراكز قوى واعدة في أسواق «الشرق الأوسط» وآسيا. كذلك هناك فرصة للتدخل الإقليمي تساهم في إعادة التوازن الذي اختل لمصلحة إيران في دائرة العراق واستتباعا في إطار المشرق العربي.
المشادة الكلامية التي اعتذر عنها بيريز وأوضح أردوغان ملابساتها بشأن غزة وجرائم الحرب التي ارتكبتها «إسرائيل» تشكل عينة من تجاذبات القوى الإقليمية الصاعدة ودورها المحتمل في إعادة تشكيل المنظومة السياسية لمنطقة «الشرق الأوسط الجديد». فالفكرة التي كانت غير ناضجة وسابقة لأوانها في تسعينات القرن الماضي تحولت الآن بعد حرب الخليج الثالثة إلى مشروع محتمل يحتاج إلى ترتيبات ميدانية لترسيم خريطته وهويته وتحديد مسئولية الأطراف والقوى الفاعلة والقادرة على ضبط أمنه تحت مظلة سياسية مخالفة في مسمياتها لتلك العناوين التي أخذت تتراجع عن المسرح الجغرافي والمشهد التاريخي.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2339 - الجمعة 30 يناير 2009م الموافق 03 صفر 1430هـ