بعد أيام يحتفل السودان بذكرى عيد الاستقلال المجيد الذي نأمل أن يأتي هذه المرة وقد حل السلام في ربوع البلاد من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها. نعم سيكون احتفال السودان هذه المرة - إذا نجحت مفاوضات نيفاشا في كينيا في تجاوز العقبات الأخيرة لتوقيع اتفاق السلام المتوقع - ذا طعم خاص ويحق للسودانيين أن يعتبروا للمرة الأولى أن الاستقلال الحقيقي اكتمل وذلك بإزالة آخر عقبة كأداء تركها الاستعمار البريطاني تنخر في قلب نسيج المجتمع السوداني لعقود طويلة. والصواب أن يوقع الاتفاق المرتقب للسلام - الذي نتمنى أن يكون مشرفا للجميع - في اليوم الذي يصادف ذكرى الاستقلال الثامنة والأربعين ليضيف المعنى والقصد المرتجى لمفهوم الاستقلال بكل مدلولاته.
نقلة مهمة وتحول تاريخي ينتظران السودان الذي ظل ينزف دما غاليا على مدى سنوات طوال، ويقع على عاتق أطراف النزاع الحالي أن يكونوا على قدر عظم المسئولية التاريخية الملقاة على عاتقهم وليحققوا للشعب السوداني الحلم المرتجى من دون تفريط أو تهاون في الحقوق والواجبات، ويجب أن تكون بنود الاتفاق شاملة وواضحة ونزيهة تخلو من الغرض والتكتيكات المرحلية.
إذا تحقق الحلم السوداني عندها يحق لنا أن نعترف بأن حكومة الإنقاذ على رغم الإخفاقات التي صاحبت تجربتها على مر السنوات السابقة والأرواح التي زهقت في الحرب الأهلية استطاعت أن تنجح في إيقاف نزيف الحرب وإحلال السلام وهو الهدف الذي فشلت في تحقيقه الحكومات السابقة لأسباب مختلفة. وعندها يجب على بقية القوى السياسية الأخرى أن تساند ولا تعارض هذا الإنجاز وان تعمل جاهدة لتثبيت دعائم الاستقرار والحفاظ على الإنجاز الوطني الذي تحقق.
كما يحق لنا أن نؤكد ان أهم نتائج تجربة الإنقاذ هو اقتناع الحركة الإسلامية وبقية الأحزاب والحركات السياسية والجهوية الأخرى انه لا يمكن لطرف من دون الآخرين أن ينفرد بحكم السودان وان يلغي وجود الآخرين مهما استخدم لتحقيق ذلك من أساليب القمع والتنكيل. ومن المستفاد أيضا أن يؤكد الجميع سبل الانتقال السلمي للسلطة من دون استخدام القوى العسكرية وهو أمر في غاية الأهمية ويجب أن يشدد عليه الجميع ليتجاوز السودان مهزلة الانقلابات العسكرية التي عطلت تقدم التجارب الديمقراطية المتكررة.
الاتفاق على قيام حكومة انتقالية تتولى السلطة لمدة خمس سنوات عقب اتفاق السلام المتوقع مع الحركة الشعبية لتحرير السودان ومن ثم مع بقية القوى المعارضة الأخرى والسماح بحرية العمل السياسي قبل تنظيم انتخابات واستفتاء تقرير مصير الجنوب يعني عمليا أن السودان يشهد للمرة الأولى في تاريخه الحديث انتقالا سلميا للسلطة. فقد كانت تجارب الحكم السابقة تنتهي إما بثورة وإما بانتفاضة شعبية وإما بانقلاب عسكري وهو الأمر الذي ادخل البلاد في نفق التردي والهزيمة.
لإثراء التجربة والحفاظ عليها يجب على الأحزاب السياسية أن تستفيد من الفترة الانتقالية الطويلة - وهو درس مستفاد من خطأ تزاحم الأحزاب على الحكم عقب إسقاط حكومة جعفر نميري بانتفاضة شعبية إذ لم تتول الحكومة الانتقالية برئاسة عبدالرحمن سوار الذهب الحكم سوى فترة عام واحد - وان تعد نفسها جيدا لمرحلة العمل الديمقراطي الحر وذلك عن طريق العودة إلى قواعدها الحقيقية وان تمارس الديمقراطية والنقد الذاتي في داخلها حتى تترسخ جذور الممارسة الديمقراطية من القاعدة قبل القمة على أسس صحيحة. والمرجح الآن أن تمنح الأحزاب التقليدية الفرصة لتولي قيادات شابة زمام المرحلة المقبلة وان تكتفي القيادات السابقة بتولي دور الموجه والقيادة «التاريخية الأبوية».
أخيرا، من المهم الإشارة إلى ضرورة أن تقوم الحكومة الانتقالية بتصحيح أوضاع الجيش والخدمة العامة وان تعيد لها صفة القومية التي كانت تتمتع بها في السابق. كما يجب تقويم تجربة التعليم بكل مراحله وان تعاد لمدارس الحكومة هيبتها ومكانتها التي راحت تحت وطأة هجمة قطاع التعليم الخاص.
المعضلة الاقتصادية هي الهم الأكبر ويجب الاستفادة من الموارد المتاحة والمساعدات المتوقعة في تحقيق تنمية متوازنة تشمل الريف قبل الحضر حتى يعود التوازن الاجتماعي إلى ما كان عليه.
مرحبا بعيد الاستقلال ووداعا للحرب والاقتتال ولا للانقلابات العسكرية وتحقيق المطالب بالقوة
إقرأ أيضا لـ "ابراهيم خالد"العدد 464 - السبت 13 ديسمبر 2003م الموافق 18 شوال 1424هـ