فشل الاتحاد الأوروبي في السنوات الثلاث الأخيرة في تطوير بنية علاقاته الداخلية على رغم نجاح دول الاتحاد في تحقيق خطوات عملية نحو المزيد من التقارب على مختلف المستويات وتحديدا توحيد النقد. اليورو الآن بات من العملات الصعبة وتجاوز سقفُه الدولار وهناك الكثير من الدول أخذت تراكم احتياطات نقدية بالعملة الأوروبية لأنها ستكون في المستقبل القريب منافسة حقيقية للدولار في المبادلات التجارية.
نجاح الاتحاد الأوروبي في ميدان الاقتصاد (التجارة والنقد) لا يعني أن بنية الاتحاد تجاوزت الثغرات التي لابد منها للانتقال الى مستوى أعلى في العلاقات السياسية والأمنية والعسكرية. فالنجاح في الجانب الاقتصادي لم يقابله النجاح نفسه في الجوانب الأخرى التي لا تقل أهمية مثل الدفاع والقضاء والضريبة والخدمات وغيرها من مسائل تمس السيادة والأمن.
وإذا لم يتوصل الاتحاد الى صيغة دستورية (قانونية) تضبط تطور علاقاته الداخلية فإن الصيغة الاتحادية نفسها ستكون دائما معرضة للاهتزاز والتلاعب من الولايات المتحدة في كل منعطف أو حين تواجه الدول الكبرى مشكلات حساسة كما حصل ابان أزمة العراق وتفرد واشنطن بقرار الحرب.
الاتحاد الأوروبي قوة كبرى اقتصاديا، فهو بات في المرتبة الأولى وتأتي بعده الولايات المتحدة وثم اليابان. إلا أن القوة الاقتصادية في عالم تسوده صراعات وأزمات تبقى بحاجة الى قوة عسكرية تحميها مؤسسات دستورية متفق عليها بين دول القارة. وهذا إذا لم يحصل ستبقى أوروبا مجرد قوة اقتصادية يلزمها الكثير من العناصر لتكون قوة اتحادية في المعنى السياسي.
هذه العناصر موجودة الى هذا الحد أو ذاك في الولايات المتحدة وروسيا والصين مع فارق بين دولة وأخرى. واحيانا هناك تضخم في ناحية (الكثافة السكانية في الصين) وضعف في الناحية نفسها (نقص سكاني في روسيا) اوعدم تجانس قومي أو ديني (أوروبا والولايات المتحدة).
إلا أن الاتحاد تنقصه عناصر حيوية تعطل إمكانات تطوره السريع، منها عدم تجانسه القومي - الديني - المذهبي - اللغوي وبالتالي عدم وجود إطار دستوري (قاري) يحتوي كل هذه التعارضات لمنع تضارب المصالح الضيقة او انفجارها او السيطرة عليها وإعادة توظيفها في وعاءٍ سياسي (دولة قارية) اتحادي يتجاوز الدائرة القومية الصغرى.
الى ضعف التجانس القومي (السياسي) هناك نقطة مهمة لها صلة بالقوة العسكرية وعدم وجود جيش موحد يضبط إيقاع المصالح الأوروبية ضمن توازن القوى الدولي.
النقطة الأخيرة مهمة لأنها هي التي تشكل مظلة أمنية لحماية المصالح الأوروبية المشتركة في حال تعرض الاتحاد لضغوط داخلية (البلقان مثلا) او خارجية (الهيمنة الأميركية). والقوة العسكرية لا تقتصر على الجيوش والتقنيات الحربية بقدر ما تعتمد أيضا على وحدة الإرادة ووحدة القرار. وهذا الجانب السياسي غير متوافر ضمن منظومة الاتحاد بسبب الضغوط الأميركية ودور واشنطن الخاص في تكتيل مراكز قوى محلية تضغط على دول الاتحاد وتعرقل مسيرتها وتعطل قراراتها الضرورية كما حصل أخيرا في قمة بروكسيل. فالقمة الأخيرة فشلت في التوصل الى اتفاق نهائي يحدد صيغة أوروبية مشتركة للدستور (الدولة الواحدة) والدفاع (منظومة قارية موحدة). ولعبت الولايات المتحدة دورا سلبيا في منع دول الاتحاد من التفاهم بسبب المناورات السياسية التي أقدمت عليها من خلال توظيف علاقاتها الخاصة مع بريطانيا وإسبانيا وبولندا لتأجيل أو وقف خطوات تطوير العلاقات البنيوية الضرورية لرفع الاتحاد الى صيغة أعلى من السابق.
أوروبا إذا بحاجة الى وقت حتى تنجح في رفع مستوى الجوانب الأخرى من قوتها لتتوازن مع قوة اقتصادها ونقدها. وبانتظار أن يحين وقت أوروبا الموحدة والصين الجديدة ستبقى مخاطر الولايات المتحدة رابضة الى فترة ليست قليلة... ولكنها كافية لإحداث المزيد من الخراب في العلاقات الدولية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 464 - السبت 13 ديسمبر 2003م الموافق 18 شوال 1424هـ