ها نحن أمام عذاب جديد هو عذاب الاختبار بين «خريطة الطريق» الأميركية و«خريطة الطريق» السويسرية المسماة بمبادرة جنيف، في وقت لايزال الشعب العراقي في حيرة من أمره في حسم الأفضلية بين محتل أميركي ومستبد عربي.
وأول ما يتبادر أن الضرورة تفرض عدم الاستعجال في قراءة الخريطتين بإصدار حكم عاطفي، مع عدم التأخير لطرق الحديد وهو ساخن قبل أن تضيع المبادرة إن كانت تمثل الحد الأدنى المطلوب من قبل الشعب الفلسطيني.
والسؤال لماذا لم تعرقل القيادة الإسرائيلية والفلسطينية المبادرة التي بدأ التحاور حولها بين قوى اليسار الإسرائيلي وبعض الفلسطينيين قبل قرابة 3 سنوات لو لم يكن شبه قبول لها من الطرفين خصوصا وأن عبدربه كان وزيرا رسميا في السلطة أثناء التحاور.
إن كل الدلائل تشير الى أن القيادة الإسرائيلية في مأزق والإدارة الأميركية في مأزق وأوروبا في مأزق والشعب الإسرائيلي يرغب في حياة هادئة خالية من الرعب المرتقب في أية لحظة والشعوب الأوروبية في استبيانها صوتت بغالبية 59 في المئة أن «إسرائيل» هي الدولة الأخطر على السلام العالمي وما إعلان محافظ لندن عند زيارة بوش لها أن الرئيس الأميركي يمثل الخطر الأكبر على السلام ثم نصيحة طوني بلير لبوش بضرورة اتخاذ سياسة أكثر حيادية بين «إسرائيل» والعرب وإلا ستعرض الولايات المتحدة نفسها للعزلة. ولو أضفنا إلى كل ذلك فشل شارون بعد سنوات من تحقيق الأمن عدا خسائر «إسرائيل» الاقتصادية وإجماع الجمعية العامة للأمم المتحدة بإيقاف بناء الجدار فإن الوقت مناسب لوضع حل نهائي لهذه المشكلة القائمة بين الشعبين والقبول بمبادرة جنيف على رغم رفض الراديكاليين اليهود والفلسطينيين معا لها خصوصا وان المبادرة تمثل الحد الأدنى الذي يمكن للشعب الفلسطيني قبوله وان على «إسرائيل» أن تدرك أن هذه التسوية جاءت في ظل هذه الظروف الرديئة من ضعف عربي.
إن مبادرة جنيف تنطلق من التزام الطرفين الإسرائيلي - الفلسطيني بقرارات مجلس الأمن رقم 242 و 338 و 1397 متضمنة مشروع المبادرة العربية التي قدمها ولي العهد السعودي الامير عبدالله في قمة بيروت وحظيت بالموافقة العربية.
لكل هذا وذاك يجب عدم رفض المبادرة خصوصا اذا أضفنا أمورا منطقية أخرى عليها منها:
- أن المبادرة تختلف عن خريطة الطريق الأميركية إذ تتحدث عن حدود دائمة وثابتة وليست مؤقتة بعودة «إسرائيل» إلى حدود 4 يونيو/ حزيران 1967.
- هناك مشكلة عودة اللاجئين وهم يزيدون على أربعة ملايين يتمتعون بحقوق مماثلة للمواطنين في بلدان مثل سورية والأردن وبعض دول الخليج. واللاجئون الوحيدون المتضررون بشكل كبير ومأسوي هم الذين في لبنان ولا أظن أن اللبنانيين سيقبلون بتوطينهم مهما كان الدعم الدولي التشجيعي للحكومة اللبنانية، وهؤلاء يمكن إعادتهم إلى الدولة الفلسطينية خصوصا وان الاتفاقية تنص على التعويض عن ممتلكاتهم. صحيح أن المبالغ ستكون زهيدة للغاية لكن دعما دوليا سيضاف إليها خصوصا وأن الاتفاق يتضمن عدم مس المستوطنات وتركها بما فيها ما يساعد على توطينهم هناك.
ويذكر أن منظمة التحرير الفلسطينية وافقت على الاتفاقات السابقة ابتداء من أوسلو وما تبعها من اتفاقات وتفاهمات أخرى قد تضمنتها المبادرة كما تبين ديباجتها التي تقول: «ان هذا الاتفاق قد أبرم في إطار عملية السلام في الشرق الأوسط التي بدأت في مدريد في أكتوبر / تشرين الأول 1991، وإعلان المبادئ الصادر بتاريخ 13 سبتمبر/ أيلول 1993 والاتفاقات اللاحقة بما فيها اتفاق المرحلة الانتقالية الصادر في سبتمبر 1995 ومذكرة واي ريفر في أكتوبر 1998، ومذكرة شرم الشيخ في الرابع من سبتمبر 1999، ومفاوضات الوضع الدائم بما في ذلك قمة كامب ديفيد في يوليو/ تموز 2000، وأفكار كلينتون التي أعلن عنها في ديسمبر/ كانون الأول 2000 ومفاوضات طابا في يناير/ كانون الثاني 2001».
ان الذي يجب التشبث به وهو موجود في «مبادرة جنيف» حق عودتهم إلى دولتهم الفلسطينية التي سيتركونها من دون المساس بما تم بناؤه من مستوطنات وهي تستوعب 160 ألف شخص أي ما يزيد على نصف احتياجات الفلسطينيين الموجودين في لبنان.
وبالمقارنة بين «خريطة الطريق» و«مبادرة جنيف» نجد أن المبادرة الأخيرة تحتكم إلى العقل والمنطق أكثر من الأولى. ففي الوقت الذي جعلت «خريطة الطريق» التي وصفتها شئون الخارجية الفلسطينية عند إعلانها أنها تقبلتها على مضض بقولها: «إن «خريطة الطريق، تعكس التصور الإسرائيلي - الأميركي للحل، لأن بنودها عمدت إلى تجاهل قضايا رئيسية كالقدس والإستيطان واللاجئين..إلخ، وهي تقضي بعدم مشروعية الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، وبالتالي عدم مشروعية الاستيطان في هذه المناطق وكذلك حق عودة اللاجئين إلى ديارهم، فكيف يمكن تصور مشاركة عملية ومتوازية للأمم المتحدة في مشروع سلام يستثني تطبيق قراراتها الدولية».
غير أن منطق القوة يغلب منطق الحق، ومنطق الأقوياء الطغاة يختلف عن منطق الضعفاء، وعلى رغم أن الخارجية الفلسطينية تبرر موافقتها على «خريطة الطريق» بكلام غير منطقي لكن على المثقف العربي أن يقنع نفسه عنوة أن الحد الأدنى لقبول الفلسطينيين لا يتوقف عند حد. فالخارجية تبرر ذلك بقولها: «وبعد أربعة أسابيع من الدراسة والتشاور مع الدول العربية، جاءت موافقة السلطة الوطنية الفلسطينية على خريطة الطريق على مضض وذلك يوم الأحد الموافق 10/11/2002 ويعتقد الكثير من المحللين السياسيين بأن موافقة السلطة الوطنية على رغم اعتراضها جاءت لقناعتها من رفض حكومة شارون للمشروع لاحقا».
وبقدر ما يرى بعض المحللين ان خطورة الأطروحات والمبادرات المتعددة ستسبب تآكلا في الموقف الفلسطيني ومجالا لمزيد من الاختلاف وبروز الشروخات الداخلية بين الفلسطينيين كما هو حاصل اليوم، نرى القيادة الفلسطينية مختلفة فيما بينها على تشكيل الوزارة ما يزيد في كشف الاوراق.
صحيح أن التركة ثقيلة، وأدى فرض «أوسلو» إلى شرخ داخلي ووقفت مجموعة من المثقفين الفلسطينيين ضد ياسر عرفات ورفضت تحمل هذا الإثم، وكما قال الكاتب المصري حسن نافعة عن الاتفاق: «إن قبول العرب لتسوية وفق حدود سياسية لا تعطي للفلسطينيين سوى 22 في المئة من وطنهم التاريخي ليس له سوى معنى واحد وهو أن العرب باتوا على استعداد تام لتقديم أقصى ما يمكن من تنازلات من أجل حل يحقق مصالحة تاريخية أصبحت ضرورية كي تعيش شعوب المنطقة في سلام وتتفرغ أخيرا لتنمية سياسية وثقافية واقتصادية باتت شعوبها في حاجة ماسة إليها».
إن من بين إيجابيات «مبادرة جنيف» أنها تأتي في مرحلة تكاد تكون كل الظروف مهيأة محليا وعالميا لإنهاء مسلسل الحرب التي لا غالب فيها ولا مغلوب خصوصا وأن مجموعة «اليسار» الإسرائيلي التي تتبنى المشاركة في وضع المبادرة حظيت بدعم من الأوساط السياسية وعدد من الجنرالات السابقين. وكذلك حصل الطرف الفلسطيني ووزير الإعلام الفلسطيني السابق ياسر عبدربه على تأييد مجموعة من الشباب وغيرهم ما يفوت على ارييل شارون حجته عدم وجود طرف فلسطيني يمكن التفاوض معه.
وذكر الكاتب البريطاني المتخصص في شئون الشرق الأوسط باتريك سيل في مقال سابق له في صحيفة «الحياة» اللندنية: «أما خطورة معارضة «مبادرة جنيف» فعبر عنها بمرارة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك الذي سعى إلى العودة للحكم بعد فشله كرئيس للحكومة، ذلك أنه بتخوفه وقصر نظره في عامي 1999 و 2000، أضاع فرص السلام مع سورية والفلسطينيين، وستنهار أطروحته بعدم وجود محاور في الطرف الفلسطيني إذا ما لاقى اتفاق جنيف النجاح المتوقع، ذلك أن هذا الاتفاق يمثل المبادرة الوحيدة التي من شأنها كسر حلقة العنف والتدمير الحالية بعد وفاة خريطة الطريق وتراجع الرئيس بوش المخجل عن التزامه حل الصراع العربي - الإسرائيلي».
إن شارون نفسه ومعه الإدارة الأميركية والاتحاد الأوروبي توصلوا جميعا إلى نتيجة مفادها أنه لم يبق مجالا للمزيد من عصر الفلسطينيين ما يدفع للاعتقاد أن ضغط المثقفين الإسرائيليين وكذلك ضغط الاتحاد الأوروبي سيحلحل موقف شارون وحكومته وربما يفرض عليه القبول بالأمر الواقع على رغم المعارضات التي يبديها. صحيح أن الراديكاليين من الطرفين سيواصلون ضغطهم على القياديين لرفض المبادرة غير أن كل الدلائل تشير إلى التفاؤل.
إن مجرد قراءة متأنية ومتعمقة في مبادرة جنيف يدرك الإنسان أنها أفضل من خريطة طريق لم يبق منها إلا اسمها
العدد 462 - الخميس 11 ديسمبر 2003م الموافق 16 شوال 1424هـ