رحيل الجاحظ أحدث ما يشبه «الفجوة» الايديولوجية - الزمنية في سلسلة تتابع حلقات المعتزلة، إذ لم يظهر في تلك الفترة وجه بارز من شيوخ المعتزلة سوى الفضل الحدثي (قيل إنه توفي سنة 257 هـ) والشحام (توفي سنة 267 هـ).
ترافق هذا الفراغ مع فترة عرفت خلالها الخلافة العباسية حالات من الاضطراب السياسي وخصوصا في فترة صراع المستعين مع المعتز إذ ولَّد ذاك الصدام نوعا من ازدواجية السلطة لعب قادة الترك دورهم في تغذيته.
انتهت ازدواجية السلطة بتغلب المعتز واستقالة المستعين (31 سنة) ثم مقتله ذبحا. وبويع للمعتز في سنة 252هـ (866 م) وهو في مقتبل العمر لا يتجاوز 19 سنة، فكان أصغر خليفة يُولّى الخلافة.
وبسبب صغر سنه وظروفه الصعبة دخل المعتز في معترك عنيف على السلطة، فكان يخلع هذا ويعزل ذاك إلى أن أقدم على خلع أخيه المؤيد من ولاية العهد «وضربه وقيّده فمات بعد أيام» (السيوطي، ص 359).
أنهكت صراعات السلطة موقع الخلافة فازدادت بسببها قوة أمراء الأتراك إلى درجة قرروا فيها مهاجمة دار الخلافة وأجبروا المعتز على خلع نفسه لمصلحة محمد بن الواثق... وقتلوه في سنة 255هـ، وهي السنة التي يقال إن الجاحظ توفي فيها.
بويع بالخلافة لابن الواثق (المهتدي بالله) في 255 هجرية (869 م) وكان المهتدي «أسمر، رقيقا، مليح الوجه، ورعا، متعبدا، عادلا، قويا في أمر الله، بطلا، شجاعا، لكنه لم يجد ناصرا ولا معينا». (السيوطي، ص 361).
الخليفة المهتدي، كما وصفه المؤرخون، كان من الرجال الصالحين وعلى نهج السلف. وذكر عنه نفطويه أنه منع الملاهي وحرّم الغناء وأشرف مباشرة على تسيير أمر الدواوين. وبسبب ورعه وتديّنه خاف أمراء الأتراك منه فاتفقوا على خلعه وقتله فحصلت مجزرة كبيرة. وقف المغاربة والفراغنة والاسروسنية كما تذكر كتابات التاريخ مع المهتدي وحاربوا الجند الأتراك وقتلوا منهم أربعة آلاف إلا أن القتال دام إلى أن هُزم جيش الخليفة وقُتل المهتدي في سنة 256هـ (870م).
أشعلت المقتلة ثورة شعبية ضد مقتل الخليفة الورع فثار الناس واحتج العوام حزنا على رحيل المهتدي الشاب والمؤمن. ونجح ضباط الترك في إخماد الانتفاضة التي كان لها وقعها في تثبيت هيبة الخلافة لاحقا.
أنهكت المذبحة كل القوى وقلّصت نسبيا من نفوذ الأمراء الأتراك إذ تراجع دورهم مؤقتا خوفا من غضب الناس. واتفقوا أخيرا على تعيين المعتمد (كان مسجونا) خليفة وتم له الأمر.
شهد عهد المعتمد - على رغم انهماكه في اللهو واللذات - فترة استقرار في السلطة بسبب الاضطراب السياسي العام وخروج ثورات اجتماعية اتسمت بقدر كبير من العنف الدموي والفوضى الشاملة وتخريب العمران. فالاستقرار في السلطة كان سببه ضعفها، لا قوتها. وحين تضعف الدولة ويشتد في داخلها صراع العصبيات السياسية تعصف بالمجتمع الانتفاضات الشعبية وغيرها من حركات تمرد وجنون دموي. وهذا ما حصل في البصرة.
آنذاك كان الشحام وأتباعه يعيشون في تلك المدينة المنكوبة. فالشحام كان رئيس معتزلة البصرة في عصره كما يقول الأشعري في «مقالات الإسلاميين». والشحام رئيس فرقة من المعتزلة أطلقت عليها تسمية «الشحامية» وهي من أتباع أبي يعقوب يوسف بن عبدالله بن اسحاق الشحام. وكان الشحام رئيس ديوان الخراج في عهد الخليفة الواثق في بغداد. وهو من أصحاب أبي الهذيل العلاف وأستاذ الجبائي الأب (توفي 295 هـ). والجبائي الأب ثم الابن (توفي 321هـ) سيكون لهما شأنهما الكبير في إعادة تأسيس المعتزلة في فترة طردها من دولة الخلافة.
بعد طرد المعتزلة من ديوان الخلافة في بغداد عاد الشحام إلى البصرة وترأس هناك مدارسها نظرا إلى كبر سنه وطول باعه وتجربته الطويلة في الحكم.
يقول البغدادي في «الفرق بين الفرق» إن الشحام (أستاذ الجبائي) أجاز كون مقدور واحد لقادرين بينما امتنع الجبائي وابنه عن قول ذلك. وفي قوله هذا اختلف الشحام عن «الصفاتية» إذ لا يثبتون خالقين وإنما يجيزون كون مقدور واحد لقادرين: أحدهما خالقه والآخر مكتسب له، وليس الخالق مكتسبا ولا المكتسب خالقا (الفرق، ص 163). فالشحام في هذا المعنى أجاز كون مقدور واحد لقادرين، فإن فعلها الله كانت ضرورة وإن فعلها الإنسان كانت كسبا، (جامع الفرق، ص 124). ويكرر الأشعري الأفكار نفسها في «مقالاته» عن الشحامية. فالشحام زعم، برأي الأشعري «أن الله يقدر على ما أقدر عليه عباده». وقال أيضا إن الحركة واحدة فإذا فعلها الله كانت «ضرورة» وإن فعلها الإنسان كانت «كسبا».
تنظيرات الشحام وأصحابه من معتزلة البصرة أحدثت انشقاقا ايديولوجيا - سياسيا تأسس بدوره على خلافات سابقة وقعت بين مدرسة معتزلة بغداد ومدرسة معتزلة البصرة. هذه الخلافات ليست جديدة إلا أنها طوّرت نقاشات سابقة تركزت على مسألتي النبوة والإمامة. ويرى الشهرستاني أن كلام جميع المعتزلة البغداديين في النبوة والإمامة يخالف كلام البصريين. ويشير إلى أن «من شيوخهم من يميل إلى الروافض، ومنهم من يميل إلى الخوارج». (الملل والنحل، الجزء الأول، ص 84).
هذه الفضاءات الايديولوجية، وتحديدا في البصرة في ظل رئاسة الشحام لمدارس المعتزلة، عاصرت أجواء اندلاع انتفاضات وحركات عنف وفوضى سياسية ضد دولة الخلافة أطاحت بالكثير من البشر والحجر. فالتنظيرات التي كان يطلقها شيوخ المعتزلة من بغداد والبصرة خرجت عن زمنها بعد خروج الفرق من ديوان الخلافة وباتت أفكار المعتزلة مجرد أقوال تضاف إلى أقوال بينما حركة الصراع تتجه في سياق مختلف وتدفع التناقض نحو الانفجار الكبير. فالمعتزلة حركة ايديولوجية بينما الواقع في تعارضاته يتركب من قوى وتحولات يقودها البشر.
في ظل هذه الفضاءات التنظيرية اندلعت ثورة الزنج في سنة 256 هجرية في عهد المعتمد وهي ثورة ممتدة استمرت 14 سنة وبدأت بخراب البصرة وتدميرها وحرقها وقتل من فيها، بقيادة رئيس لها يدعى بهبوذ ادعى كما يقول السيوطي عنه «أنه مطّلع على المغيّبات». (تاريخ الخلفاء، ص 363).
توقفت ثورة الزنج في العام 270 هـ (883 م) حين قتل رئيسها بهبوذ. وكانت فرقة الشحام ومدرسته ومدينته (البصرة) قضي عليهم حرقا ونهبا وقتلا. فالشحام عاش إلى سنة 267هـ (880 م) وتوفي بعد «خراب البصرة» وقبل مقتل بهبوذ بثلاث سنوات
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 462 - الخميس 11 ديسمبر 2003م الموافق 16 شوال 1424هـ