تشهد إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش تراجع دور المحافظين الجدد الأيديولوجيين في رسم السياسة الخارجية لحملة إعادة انتخاب بوش لفترة رئاسة ثانية بسبب تعاظم مأزق واشنطن في العراق. فقد أظهرت تصريحات كبار المسئولين الأميركيين خلال الأسبوعين الأخيرين تسابقا واضحا على التنصل من المسئولية عن التخبط الذي تشهده سياسة البيت الأبيض في العراق. وقد لاحظ مراقبون ومحللون أن البيت الأبيض لم يقدم حتى الآن «كبش فداء» لهذا التخبط حتى بعد أن كشف مأزق العراق الحجم الحقيقي لمصاعب الولايات المتحدة من جراء احتلالها العراق أكبر بكثير مما كان مخططو وزارة الدفاع (البنتاغون) الأيدولوجيون قد توقعوه.
وبينما ظهر رئيس هيئة موظفي البيت الأبيض، آندرو كارد يوم الأحد الماضي على شبكة التلفزيون الأميركية «سي بي إس» يدافع عن قرارات وممارسات الإدارة، ظهرت العضو الديمقراطي في مجلس الشيوخ الأميركي هيلاري كلينتون على شبكة التلفزيون الأميركية «إن بي سي» تتهم سياسة حكومة بوش في العراق بالعشوائية والغطرسة وغياب المعرفة في التصرف وخطورة محاولة الاستفادة السياسية واللجوء إلى اعتبارات المكاسب الانتخابية في الإسراع باستنباط (استراتيجية خروج مبكر) من العراق، على حساب تفاقم المأزق وانفجار استقرار الشرق الأوسط برمته».
ويعزز الهجمات والانتقادات الموجهة إلى البيت الأبيض ارتفاع الخسائر البشرية في صفوف قوات الاحتلال الأميركي وتراجع شعبية بوش في أوساط الأميركيين فيما يتعلق بالموافقة على أدائه، التي هبطت إلى أقل من خمسين في المئة لأول مرة. ويرى مراقبون أن هناك تحولا حقيقيا في السلطة في واشنطن فيما يتعلق بالسياسة الخارجية عموما والعراق خصوصا بعيدا عن الصقور الذين يعتقدون أن بإمكان الولايات المتحدة أن تفعل ما تريد من دون أن تأبه لأية معارضة دولية، في سياق النزوع إلى الهيمنة المطلقة في العالم، باعتبارها السياسة الصحيحة، وأن تكون العراق هي الخطوة الأولى في استراتيجية واشنطن لإعادة صوغ المنطقة العربية ونشر ما تزعم أنه الديمقراطية.
فقد لاحظ هؤلاء المراقبون أن بوش بدأ يميل إلى «المعتدلين والبراغماتيين» في حكومته لرسم سياسته تجاه المنطقة والعالم. وهؤلاء يؤمنون بأن هناك حدودا لقدرة الولايات المتحدة على فرض سياسة ما في المنطقة كما أنهم يعتقدون أن هناك قضايا أخرى يتوجب على واشنطن متابعتها مثل كوريا الشمالية والأوضاع المستجدة في روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق.
وتلاحظ أوساط سياسية ودبلوماسية في واشنطن تحركا ملموسا لعدد من المسئولين الأميركيين وعناصر بارزة في مراكز البحث والدراسات في واشنطن لإعادة توجيه اللوم إلى نائب الرئيس الأميركي ريتشارد تشيني. ويقول المؤرخ الأميركي جيمس كلورفيلد إنه تم إضافة تشيني إلى بوش «كضمان لحمايته من مواقف المحافظين الجدد الرعناء والمغامرة، ولكنه خانهم بتصدره لقيادة مفاهيمهم الإمبريالية المهيمنة» ويعتقد كلوفيلد بأن وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونائبه وولفويتز ومستشاره ريتشارد بيرل وجميع اعضاء مجموعة «التحول النظيف» الذين ينتمون إلى تيار المحافظين الجدد، «لضرب المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي وغزو العراق، بالانحناء أمام تشيني ومنحه الطاعة كما شهدنا في فيلم العرّاب عن المافيا» ما يسبب حال خيبة الأمل لدى المحافظين الجمهوريين التقليديين بمن فيهم الرئيس السابق جورج بوش الأب (والد الرئيس الحالي) ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ ريتشارد لوغر ورئيس لجنة القوات المسلحة في المجلس جون وارنر، وحتى في مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، الذي تترأسه كوندليزا رايس هناك تراجع ملموس لدور المحافظين الجدد. وفي هذا الشأن يقول الباحث في مركز نيكسون بواشنطن، ديمتري سايمز إن «هناك الكثير من الناس الذين يشعرون بالغضب الواضح إزاء الأيدولوجيين. فالشعور هو أنهم لا يتفقون مع الحقائق».
وقد تسبب عمق مأزق البيت الأبيض في العراق إلى حد أن حكومة بوش لم تعد تعرف المدة التي يتوجب أن تقضيها قوات احتلالها في العراق، أو أنه يتوجب عليها أن تسلم الأمر برمته إلى الأمم المتحدة. كما أن الكلفة الاقتصادية والبشرية الباهظة لاحتلال العراق تسببت في الامتناع عن النظر جديا في دفع جدول أعمال المحافظين الجدد الخاص بتغيير أنظمة الحكم في المنطقة وخصوصا سورية وإيران حين قبلت في النهاية جعل الملف النووي الإيراني من اختصاص اللجنة الدولية للطاقة الذرية. كما اضطرت حكومة بوش في النهاية إلى تليين موقفها تجاه كوريا الشمالية فيما يتعلق بنشاطها النووي والصاروخي.
ويرى خبراء أن هذه التراجعات تقوض صدقية «أيدولوجية الهيمنة» التي يتبناها المحافظون الجدد الذين أداروا طول السنوات الثلاث الماضية السياسة الخارجية للبيت الأبيض إذ اتهموا بأن مصالحهم هي التي تحركهم وليس المصلحة القومية للولايات المتحدة.
وتسود مرة أخرى حال من الاستياء العام بسبب منح عقود إعادة إعمار العراق، من دون مناقصات معلنة، للشركات الأميركية التي ترتبط بعلاقات وثيقة برموز رئيسية في حكومة بوش والحزب الجمهوري مثل شركة هاليبرتون التي كان يترأسها تشيني. إذ حصلت الشركة حديثا على عقد لإعادة إعمار العراق من سلاح الهندسة في الجيش الأميركي بقيمة مليار دولار، من دون مشقة المنافسة أو حتى المناقصة الصورية. ويمنح العقد المسمى الشركة بتحديد الكلفة بشكل إجمالي لتنفيذ العقد دون تجزئتها إلى كلفة وأرباح.
وكان العضو الديمقراطي في مجلس النواب الأميركي هنري واكسمان، كشف أن شركة «كي بي آر» التابعة لهالبيرتون تمكنت من الحصول على عقد تبلغ قيمته 704 ملايين دولار في شهر أغسطس/ آب الماضي من دون الإعلان عنه في أية مناقصة ما اعتبره «ينم عن ممارسات غير عادلة كما يفرضها مبدأ التنافس الذي يقوم عليه اقتصاد السوق الحرة»
العدد 461 - الأربعاء 10 ديسمبر 2003م الموافق 15 شوال 1424هـ