قضيت في البحرين قرابة الشهر، بدعوة كريمة من سليلة شيوخ مثقفة، جمعت بين أصالة التراث وحداثة الفكر والتوجه، وهي الشيخة العزيزة «مي» القائمة على مركز الشيخ «إبراهيم بن محمد آل خليفة» في «المحرق» فتم لقائي في الثامن عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني في رحاب ذلك المركز مجموعة من عشاق الفكر والكلمة النقدية فاستمعوا إلى قولي عن «الإسلام بين شرعة السيف والتعددية والآخر» ميّزت فيها بين مواقع آيات الحوار والمجادلة الحسنة من جهة وآيات السيف من جهة أخرى، إذ لا يجتمع في جزيرة العرب دينان ولا تجتمع في الأمة الوسط ما بين البيت الحرام والأرض المقدسة مركزيتان.
وكان القول «ثقيلا» ولم يستخفوا به حين «استمعوه» ثم «سمعوه».
وحزمت حقائبي للمغادرة بعد يومين وإذ بي في رحاب عائلة الجمري وشيخها من أعلام البحرين، علما ومجاهدة، ثم في مجلسه العامر على مرتين، أستغرق مع الآخرين في بحث «إشكاليات الحركات الإسلامية» حاكمة ومعارضة، فانتقلنا من «فضاءات» الفكر حين التنظير النقدي إلى «جدل الواقع»، فكان «سبحا طويلا» استلهمت فيه عصارة تجارب وقد بلغت الستين من العمر. بعضها نجح ولم يؤتِ أكله كاملا بعد؛ وبعضها فشل، وبعضها راوح في مكانه.
فالذي نجح من تلك التجارب ارتبط بجدل الواقع ولم يفرض «التنظيرات المسبقة» ليفصل القدم على الحذاء، بل فصل الحذاء على القدم. حتى حققت «اريتريا» استقلالها بعد ثلاثين سنة من المعاناة (1961/ 1991)، وكم صادفت طوال تلك الثلاثين سنة شبابا أحسنوا التنظير ولم يحسنوا الممارسة، وأجادوا «رفض» كل شيء فلم يصلوا إلى شيء، فزادوا في معاناة الشعب الارتيري. فلو سمعوا لما قلنا بعقولهم من بعد أن استمعوا بآذانهم العام 1971 لحققت اريتريا استقلالها في ذلك العام أو بعده بعام. فالرفض والرفض والرفض مهما كانت معطياته الأخلاقية ومبرراته المثالية وخصوصا حين يرتبط بزخم الجماهير الشعبية لا يؤدي إلا إلى نتائج سالبة تدفع الجماهير فيه الثمن قبل القيادات، فللواقع دائما جغرافيته السياسية وضوابطه الاستراتيجية وبوصلته ومن لا يتقن التعامل معه لتحقيق أهدافه سيكسر الدفة والمجداف معا. وفعلت اريتريا ذلك العام 1971 فتأخر التحرير عشرين سنة إلى العام 1991.
الذي راوح من تلك التجارب التي عشتها في مكانه، تجربتي السودانية إذ يغيب جدل الواقع عن معظم الفعاليات السودانية، بمختلف اتجاهاتها، فالشعارات دوما تأسر الواقع، سواء في السلطة أيا كانت اتجاهاتها أو في المعارضة بما يماثل ما في السلطة. نخبيون إسلاميون أو يساريون، طائفيون برلمانيون، حزبيون انتقائيون شيمتهم الوسطية في كل أمر إلا في السلطة فهم آحاديون بلا منازع.
طرحت على أهلي في السودان العام 1984 وقبل سقوط نميري بعام واحد كيفية «الجمع» بين إسقاط ذلك النظام العسكري وتهيئة «البدائل» الموضوعية بالوقت ذاته، وإلا لا داعٍ مطلقا لإسقاط النظام من دون إعداد البدائل، ولم يستجب أهلي في السودان، فسقط نظام نميري العام 1985 وجاءت البدائل البرلمانية وترحمنا على الشهداء ليسكنهم الله - سبحانه - فسيح جناته فيما سكن الشعب السوداني فسيح العذابات الدنيوية.
ولنخرج من عذابات الدنيا طرحت في العام 1997، ضرورة إحداث «ثغرة في الحائط المسدود» بمنطق «الوفاق» مع النظام الذي جسده «الإنقاذ» لفرض شروط «الانفراج» عليه وكسر جانب من آحاديته بمنطق نسبي. ولم يؤازرني في موقفي ذاك سوى قلة ممن هدى الله - سبحانه - فوقعت معهم إعلانا في دمشق بتاريخ 17 مايو/ آيار 1997 وعدنا إلى الخرطوم إذ بدأ الانفراج على مستوى الحريات الصحافية والمنبرية وكان أول الفرحين بالانفراج أجهزة الأمن وعقلاء النظام الذين ملّوا ملاحقة الجماهير و«بيوت الأشباح».
وأخذني أصدقائي من قادة المعارضة التي أعلنوها «مسلحة» في أسمرا - عاصمة اريتريا - حيث مقري الثاني وحيث أبنائي الذين عايشت تجاربهم النضالية حتى الاستقلال.
أخذوني لأني فضلت الوفاق على المعارضة، فسألتهم وساءلتهم عن «ثمن» المعارضة وعن «البدائل» ثم لجأت إلى ورقة صغيرة أمامي وكتبت لهم الآتي: «حين يقبل النظام بالانفراج الذي لا تتعدى نسبته 10 في المئة من المطلوب ويحجب عنا 90 في المئة من طموحاتنا فذاك يعني أن قوة النظام الحقيقية لا تتجاوز نسبة 40 في المئة وأن قوتنا الحقيقية هي 60 في المئة وإلا لما قبل بإعطائنا 10 في المئة من الانفراج». وطلبوا مني توضيح هذه «المعادلة الملتبسة جدا». فقلت: هل يمكن لنظام آحادي، لاهوتي التوجه، يملك السلطة والسلاح والمال، أن يقبل بمنحنا 10 في المئة من الحريات النسبية فقط إذا كان يملك قوة بمستوى 90 في المئة على أرض الواقع؟! إن نسبة 10 في المئة التي تنازل عنها قد صدرت منه لا بمنطق «القبول الطوعي» ولكن بمنطق «التعقل المفروض» لأن قوة النظام الفعلية على أرض الواقع قد تقلصت بنسبة 60 في المئة فمنحنا من هذه الـ 60 في المئة عشرة فقط، ولن يقوى في حال قبولنا بها وممارستنا لها على الاحتفاظ بالخمسين في المئة الأخرى لأن قوته لا تتجاوز الأربعين في المئة.
تلك قراءة في «جدل الواقع» إذ يتم الجمع بين الوفاق النسبي والأهداف.
وبعدها صعدت العشرة في المئة إلى العشرين ثم إلى الخمسين وها هو النظام في الخرطوم يستقبل وفد الحركة الشعبية التي يقودها جون قرنق من بعد أن استقبل زعيم حزب الأمة الصادق المهدي، ويتهيأ لاستقبال زعيم المعارضة والحزب الاتحادي الديمقراطي الميرغني. ولكن البداية كانت بتلك العشرة في المئة العام 1997.
طفت تلكما التجربتان المعاشتان على واعيتي في البحرين وأنا أتنقل بين «مجلس» ومجلس، وأتابع حيثيات التحول الدستوري والانفراج السياسي والثقافي، محاولا فهم «البوصلة» و«الدفة» و«المجداف».
فالبحرين عزيزة على نفسي كسائر دول الخليج، وحتى إيران كذلك. والأخيرة زرتها بدعوة كريمة من قادتها إثر وفاة الإمام الخميني الذي كان أمة في رجل، زرتها وقد وضعت الحرب «المفروضة» على الثورة الإسلامية في إيران أوزارها وبقي وزرها وتم دفع الثمن لاحقا، فالذي يزرع الشوك لا يحصد عنبا.
قلت لهم الآن بدأتم في نهاية الثمانينات وليس من قبل في مطلعها حين طُرد الشاه، وبحثت معهم في «البوصلة» و«الدفة» و«المجداف». وكان مرافقي «سيبويه» - وللمرة الأولى أعرف أن الاسم يعني رائحة التفاح بالفارسية - كثير التسجيل لملاحظاتي فقلت له ستعاني معي كما عانيت أنا مع سيبويه من قبل أو بالأحرى عانى سيبويه من لغتنا وربما تملّل في قبره، أو تململ فذاك راجع أيضا إلى سيبويه - رحمه الله.
في إيران تذكرت دور الفرس في مواجهة الاسكندر المقدوني، أو (العولمة الهيلينية اليونانية) فقد جهدوا ليكونوا حماة الشرق، وتذكرت «زنوبيا» ملكة تدمر الشامية التي أرادت الاستعانة بهم في وجه الغرب الأوروبي، فسألتهم عن الموقف من زنوبيا (المعاصرة) ومن العولمة (المعاصرة) وكيف يمكن تجاوز مصير (دارا)!
أربعمئة بحريني للقرن الإفريقي!
حين حملت أوراقي لألقي محاضرة عن القرن الإفريقي بدعوة كريمة من الصديق القديم عبدالنبي حسن العكري في «جمعية العمل الوطني الديمقراطي» وجدت نفسي أمام حشد بحريني يبلغ الأربعمئة أو يزيد.
تملكتني الدهشة! هل يمكن أن يصل اهتمام البحرينيين قياسا إلى نسبة الأربعمئة من العدد الكلي إلى السكان مبلغا يتجاوز الحضور السوداني في الخرطوم لمحاضرات بهذا المضمون؟ فلو طبقنا المقايسة فالمفترض أن يبلغ الحضور في السودان الذي يبلغ تعداده 30 مليون نسمة حوالي ربع المليون!
ثمة أمر «غامض» لا يجلوه إلا هذا (العكري)، فقد خبرت أساليبه قبل ربع قرن من الزمان في بيروت، فسألته عن مغزى هذا الحضور البحريني الكثيف، وجاء الرد - كما توقعت - فقد جمع العكري هذا بين توقيت محاضرتي عن القرن الإفريقي واجتماعات اللجان الخاصة بجمعية العمل الوطني الديمقراطي، ففوجئوا بالمحاضرة بالكيفية نفسها التي فوجئت أنا بهم. ولكن للحق أقول فقد كان اهتمامهم بالمحاضرة لا يقل عن اهتمامهم باجتماعاتهم.
مخاض التحول البحريني
لا يسعني أن أعدد الندوات والمجالس التي تغشيتها في هذه الفترة الوجيزة وفي بعضها مفاجآت كتلك التي عثرت فيها على الطبعة الأولى للعام 1979 من كتابي «العافية الإسلامية الثانية» لدى الشيخ الجليل كامل الهاشمي وذلك في ندوة في مجلس الشيخ الكريم عبدالأمير الجمري، فقد أضاعت أم إبراهيم (زوجتي) آخر نسخة من الطبعة الأولى، وطبعا أنا المتهم لديها وليست هي. وسألني الأخ الهاشمي: «هل مازلت على آرائك تلك وموقفك من الثورة الإسلامية في إيران؟» فقلت له: نعم ونعم. وأردفت: ومازلت على موقفي من «التدافع» مع «إسرائيل» والوارد في الطبعة الأولى ثم الثانية في العام 1996، إضافة إلى طبعة تنظيم «الجهاد الإسلامي» داخل الأرض المحتلة، وموقفي هو هو: الاستشهاد الفلسطيني هو الرد على الاستئصال الإسرائيلي، «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم» (194: البقرة).
ذلك «جدل الواقع» أيضا في الأرض المقدسة. فجدل الواقع حتى في الوفاق لا يتم إلا «بتعقل مفروض» ولم يتعقل الإسرائيليون بعد.
هموم البحريني وبالذات الشباب هموم «تحوّل» يرتبط بأوضاع البحريني وكذلك بأوضاع البحرين، فالبحريني محاط بالثراء الخليجي الذي لا يعبر إليه حتى عبر الجسر. فكم من بيت هالك وبئر معطلة ومزرعة هرمة ومقبرة بلا سياج، وما تبقى نتلوه في أعمدة سيدضياء الموسوي في «الوسط».
والبحرين في الجزيرة الصغيرة التي أحببت، محاطة بقوة «الجيو-بوليتيك» الخليجي وأعمدته من السعودية إلى إيران وإلى العراق (فرّج الله كربته).
وقوة الجيوبوليتيك تظاهرها قوة «العولمة» ويحلق هؤلاء جميعا بقوتهم المهولة هذه فوق فضاء الجزيرة الصغيرة وحول سواحلها، وينظر البحريني بدهشة وأعين جزعة إلى هذا الذي من فوقه جوّا، وهذا الذي من حوله بحرا كأنها (الأيام التي خرب فيها العالم). كما قال يوما الجنوبيون السودانيون في العام 1885 حين رأوا حشودا مختلفة من القوات الأوروبية تتقاتل فيما بينها في أرضهم وحولها لاقتسام النفوذ في القارة السوداء.
غير أن البحرينيين يقولون ما قاله الجنوبيون السودانيون بطريقة أخرى في مجالسهم المتدفقة الحيوية.
إنها جزيرة صغيرة بشعب صغير ولكن بهموم كبيرة، وكبيرة جدا، فالمكتبات الخاصة في البيوت لا تقتصر على الأدب حين يكون صاحب الدار أديبا، ولا تقتصر على الدين وصاحبها شيخ، ولا على السياسة والمعني بها سياسي، وإنما هي (موسوعات) بقدر الهموم الكبيرة للبحريني وجزيرته. فكُتُب «ليدل هارت» عن الاستراتيجية موجودة بالرف ذاته مع كتب العلامة السيدمحمد باقر الصدر وكتابات فهمي هويدي.
ومع تطلع البحريني بحكم واقعه الذي ذكرته إلى أن يتخذ من الموسوعية ملاذا للفهم إلا أن في مكوّنات ذاته الداخلية (خلوصية) تنظر بتقدير كبير ومثالية إلى ما يكون قد لامس مشاعره في الخارج العربي أو الإسلامي أو الدولي، فالأخ علي الديري يفرح بأفكار محمد آركون التفكيكية بأكثر مما يفرح آركون نفسه بأفكاره لأن لعلي الديري ما يريد أن يفككه في البحرين، بأكثر مما فككه آركون في الجزائر وفرنسا. غير أن آركون حين يفكك كل شيء يعجز عن (التركيب) وهذا ما أخشى على الديري منه.
ومن الشباب من نظر بخلوصية مماثلة إلى آخرين، من رموز الحركات الإسلامية في خارج البحرين، فلما كُشف الغطاء صُدموا، فقضينا الوقت لإزالة آثار الصدمة حتى لا تفضي إلى اليأس من كل رمز ثم من كل شيء. وأسكت عن الأسماء التي صُدمت إذ يذكرونني بشبابي في العشرينات، فقد كنت خلوصيا مثلهم تماما، ثم عايشت «جدل الواقع» ولم أتكيف معه بمنطق سلبي ولكن كيفته لأهدافي بمنطق إيجابي ومن دون أن أعتد بالرمز والمرموزات.
إن هموم البحريني والبحرين أكبر من تسقط على مرموزات التجارب الخارجية وحتى تلك التي لها أصالتها في واقعها، الأصالة في المعنى المعرفي المبدئي والأخلاقي وليس التراثي، ولا أقول ذلك بمنطق «الخصوصية البحرينية» ذات المنحى الدلالي المنغلق، ولكن بمنطق «جدل الواقع» البحريني، محليا وإقليميا ودوليا، فالملعب البحريني ليس كرة واحدة وشبكتين، إنه عدة كرات وعدة شبكات وعدة لاعبين وليس كذلك فريقين، وأرضه ليست مفروشة بعشب أخضر ولكن ببيض والمشي على البيض من دون أن ينكسر هو أصعب أنواع المشي، فما بالك حين يمتلئ الملعب كله بالبيض وعليك أن تركض!
سأحمل البحريني والبحرين بين جوانحي في موضع القلب وهذا كل انطباعي
العدد 460 - الثلثاء 09 ديسمبر 2003م الموافق 14 شوال 1424هـ