لظروف طارئة، توقفت عن الكتابة خلال الأسابيع الماضية، ولكن لم أتوقف عن القراءة... والتأمل!
القراءة الهادئة تتيح التأمل العميق، تجدد الأفكار وتعمق الرؤى، وتفسح المجال واسعا أمام قراءة النفس، وقراءة الآخرين بكثير من التروي والدقة... وما أحوجنا في هذه الظروف المعقدة - داخليا وخارجيا - إلى أكبر قدر من التروي في التفكير والدقة في العمل...
وقد احتل حديث الديمقراطية مكانا مهما في مساحة القراءة والتأمل، ليس لأنه أصبح حديث الساعة وبورصة المزايدة على ألسنة كثيرين، وموقع جدل بين المختلفين، ولكن لأننا نؤمن منذ البدايات المبكرة، وبعد إخفاق الأنظمة السياسية في بلادنا نظاما بعد الآخر، في تحقيق الرقي والتقدم والتنمية والحفاظ على السيادة والاستقلال الوطني والقومي، أن الإصلاح الديمقراطي حتمي لإعادة بناء مجتمعاتنا وتثقيفها على الحرية والعدالة والسيادة والحقوق المتساوية في ظل قانون عادل.
ومن دون ادعاء أو تفاخر، أقول إنني أنفقت من عمري العقدين الأخيرين على الأقل وبتركيز شديد، في الدعوة إلى إطلاق الحريات العامة، وحرية الصحاف والرأي والتعبير في مقدمتها، وفي المطالبة بالإصلاح الديمقراطي الشامل، سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، كتبت مئات المقالات، وثلاثة كتب في الموضوع، ذلك قبل أن تهب علينا موجة المزايدة بالديمقراطية التي أطلقتها أميركا خلال العامين الأخيرين، فرددها «الصدى» في الداخل، بعد أن انقلب رجال الصدى من حال إلى حال وفق المصالح والأهواء، بحثا عن دور واقتناصا لمنصب طال انتظاره!
وباختصار، أقول إنني أرى أن الدعوة إلى الديمقراطية تم اختطافها هذه الأيام، عن طريق قوى خارجية، وأخرى داخلية مساندة لها وحليفة. وجدت أن هذا هو السبيل الأضمن للسيطرة وبسط النفوذ، وفرصة منظومة جديدة من القيم والمفاهيم - من دون مقدمات - كما نرصد مجموعة صاعدة من أصوات الصدى تركزت في جماعات المتآمرين العرب!
وبداية أوضح بجلاء لا لبس فيه ولا غموض، أمورا جوهرية، أولها: انني لست ضد أية دعوة إلى الديمقراطية، بحكم مواقفي وتفكيري، بل أنا معها قلبا وقالبا، بشرط ألا تشوبها شائبة التبعية للخارج الطامع، وثانيها: ان كثيرين من القافزين والمتقافزين على الدعوة إلى الديمقراطية هذه الأيام، طيبو النية صادقو الدعوة، وبعضهم ليس كذلك، وثالثها: ان الديمقراطية لا تتحقق هكذا ببساطة، بقرار أو أمر، سواء جاء من حكامنا أو جاء من الرئيس بوش رئيس أكبر دولة في العالم، لكنها تأتي وتتحقق نتيجة تطور طبيعي وتفاعل وتراكم سياسي وثقافي واقتصادي واجتماعي معروف...
ورابعها: ان الدعوة الأميركية المتعجلة الآن إلى تطبيق الديمقراطية فورا وبقرار كالأمر العسكري، في منطقتنا، تبدو كأنها دعوة حق أريد بها باطل، لأنها مرتبطة أساسا بالمصالح الأميركية مباشرة، وليست هادفة إلى تحقيق مصالحنا نحن، أما خامسها فهو: ان الديمقراطية مطلب شعبي مصري وعربي منذ أزمان، كافح من أجله قادة ومثقفون وسياسيون ومفكرون عظام، وضحت من أجله شعوب ومنظمات عربية كثيرة، إيمانا بأن الحرية قيمة إنسانية عظمى، وأن الاستبداد شر مطلق وفساد مقيم وانحراف عن طبيعة البشر...
غير أن الذي يقلق ويثير العجب، أن خاطفي الديمقراطية والمزايدين بها وعليها، وما أعلاهم صوتا هذه الأيام في ظل الهجوم الأميركي الشامل، يدّعون أنهم جاءوا إلينا بالدواء الذي يشفينا من الداء، وجلبوا الوصفة الطبية المؤكدة، لإزالة الاستبداد والفساد ومعالجة الفقر والبطالة واليأس والإحباط، وكأنها وصفة مبتكرة، لم يعرفها البشر من قبل، ولم نسمع نحن عنها أبدا، وعلينا تناولها صباح مساء حتى يتحقق لنا الشفاء!
ونظن أن مغالطة تاريخية وسياسية وفكرية واضحة، تكمن في هذه الدعوة العجيبة وحملاتها المروجة والدعائية لصالح الادعاء الأميركي، وليس لصالح شعوبنا المقهورة المغلوبة على أمرها، الواقعة بين المطرقة والسندان!
ليس خافيا على قارئ حتى الكتب المدرسية البسيطة، أن دولة مثل مصر، انفتحت على الغرب الأوروبي «الليبرالي» مع بدايات القرن التاسع عشر، وتعرفت على نظمه السياسية ودساتيره وقوانينه الليبرالية، ونقلت وترجمت عنه، واستفادت وراكمت طوال ذلك القرن، وعدت من دول الموجة الثانية في الليبرالية في العالم كله، ثم أنتجت في بدايات القرن العشرين تجربتها الذاتية، ممثلة في الثورة الشعبية العام 1919، ثم في دستور 1923، أول وثيقة مصرية وعربية حديثة، تنص على حريات وحقوق المواطن، وتضمن حرية الصحافة والرأي والتعبير، وترسخ لدولة المؤسسات والقانون.
وعلى رغم كل جهود الاستعمار البريطاني في إفساد التجربة الليبرالية الناشئة، بإفساده الحياة السياسية عموما، والقصر الملكي والأحزاب والصحافة خصوصا، باعتبار الصحوة الديمقراطية ضد مصالحه الحقيقية، من ناحية، وعلى رغم معاداة تيار من رجال الدين المتشددين والمحافظين كل تطور ديمقراطي باعتباره فسادا تغريبيا، من ناحية أخرى، فإن الفكر الليبرالي تعمق في التربة الوطنية، انطلاقا من حاجة وطنية، وظهر مصلح اجتماعي ديني عظيم مثل الشيخ محمد عبده تلميذ مدرسة الرائد رفاعة الطهطاوي لا يرى أي تناقض بين صميم مبادئ الإسلام، وما ينفع الناس من فكر وسياسة وثقافة انتعشت في الغرب، مثلما ظهرت قافلة طويلة من المفكرين الكبار، مثل أحمد لطفي السيد وسعد زغلول والنحاس وطه حسين والعقاد وسلامة موسى ومصطفى علي عبدالرازق وغيرهم، لا ترى في الديمقراطية - على رغم جذورها الغربية - فسادا في المجتمع ولا إفسادا للدين والحياة... بل إصلاح وتنوير وتطوير...
وعلى رغم انتكاس التجربة الليبرالية المصرية، وانعكاس ذلك عربيا، فإن البذور الصالحة ظلت في التربة قوية عفية حتى اليوم، ومن ثم فإن محاولة إيهامنا الآن بأن الوصفة الديمقراطية الأميركية، اختراع جديد ودواء مفيد، هي محاولة خادعة وخائبة بكل المقاييس... ليس فقط لأنها فاقدة الصدقية، ولكن أيضا لأنها جاءت تعبيرا عن حماية مصالح أميركية تعهدت، ودفاعا عن قيم وفرضا لسياسات غريبة بل متناقضة مع مصالحنا وقيمنا وسياساتنا، بغض النظر عمن كتب من جماعة المتأمركين العرب، مدعيا أن مصالحنا وسياساتنا متطابقة مع تلك الأميركية، وصولا إلى التجرؤ بالقول إن أمننا القومي يتحقق في إطار الأمن القومي «الكوني» الأميركي!!
وهذا خداع للناس وكذب بواح تفضحه الوقائع والحقائق الملموسة على الأرض وفي الفضاء وعبر المحيطات!
كيف إذن اختطفت الديمقراطية؟... ومن اختطفها؟... ولصالح من؟!
لقد تم اختطاف الديمقراطية والمزايدة بها وعليها، على مرحلتين متتابعتين ومرتبطتين عضويا... في المرة الأولى - والمبادرة - اختطفتها الإدارة الأميركية الحالية، بقيادة الرئيس بوش، التي تحكم أكبر وأقوى الديمقراطيات في عالم اليوم، وذلك حين استيقظت الأمة الأميركية على هول هجمات سبتمبر/ أيلول 2001 الدامية على نيويورك وواشنطن، وقالت أجهزتها إن المنفذين التسعة عشر ومحرضيهم عرب ومسلمون، أصابهم داء التطرف واليأس والإحباط، جراء ما يجري في مجتمعاتهم من حكم استبدادي فاسد، «مسنود بالقوة الأميركية» فعبّروا عن غضبهم بالهجوم على أميركا بقوة دامية انتقاما وثأرا...
وعلى رغم الاستخدام المفرط في آلة الحرب العسكرية الأميركية، باسم الحرب على الإرهاب والتطرف، في أفغانستان ثم في غزو العراق واحتلاله، خارج الشرعية الدولية، وكسرا حتى للمبادئ الديمقراطية الأميركية، وعلى رغم إطلاق حرية العنصرية النازية الإسرائيلية في القتل والتدمير والإبادة بالحجة والاسم نفسيهما، فإن عامين من الصراع العسكري لم يحلا المعضلة، ولم يصلا إلى نصر حاسم، ولم يخففا من تصاعد موجات العداء والكراهية للسياسة الأميركية - ذات المكاييل المزدوجة - في الرأي العام العربي والإسلامي... بل إن الأمر ازداد سوءا، ضد السياسة الأميركية، وضد الأنظمة الحاكمة الحليفة لها، وبالتالي ضد جماعة المروجين لهذه وتلك!
في ضوء هذا الفشل الراجع إلى تجاهل الأسباب الحقيقية والتمسك فقط بالشكليات، عادت بعض الأصوات العاقلة في واشنطن تطرح معادلة صراح الأفكار قبل صراع الأسلحة المدمرة، وحرب الأفكار قبل حرب الخنادق، وتفتق الذهن عن ضرورة إصلاح البيئة العربية الإسلامية، التي سادها الاستبداد والفساد، فأنتجت التطرف وفرخت الإرهاب...
ومن المرات القليلة، التي ظهر فيها الرئيس بوش صادقا مع نفسه ومع الواقع حين اعترف في خطاب عن ضرورات الإصلاح الديمقراطي - في 6/11/2003 - ان السياسات الأميركية أخطأت على مدى الستين عاما الماضية، عندما تجاهلت مطالب الشعوب العربية بالديمقراطية، وساندت على العكس نظم الحكم الاستبدادية الفاسدة، «والمفارقة أنه لايزال هو يساندها!!».
ومنذ مبادرة وزير الخارجية الأميركية باول في يونيو/ حزيران العام 2002، عن الشراكة الديمقراطية مع الشرق الأوسط، دارت عجلة الدعاية والترويج للإصلاح الديمقراطية المخطوف، وصولا إلى الادعاء بإقامة نظام ديمقراطي نموذجي في العراق، يجرى تصديره لجيرانه العرب، ولا ندري كيف تتوافق المبادئ الديمقراطية مع قواعد الاحتلال الأجنبي، ومنذ متى في التاريخ...
وبالتوازي والتطابق، جاء «الصدى» المحلي سريعا، وركب الموجة المخطوفة، المزايدون باسم الديمقراطية، المتقافزون على الليبرالية، المروجون للوصفة الأميركية باعتبارها اختراعا لم تعرفه التربة المصرية والعربية من قبل، وقادوا بجرأة نادرة المرحلة الثانية من اختطاف الديمقراطية، بعد أن أعطتهم الضوء الأخضر، المرحلة الأولى التي نطقت بها واشنطن...
هكذا صارت الأوضاع ملتبسة عند بعض الناس، بعد أن اختلطت المفاهيم وتداخلت المواقف... أميركا والمتأمركون يدعون إلى فرض الديمقراطية، بعد أن عجزت بلادنا عن تطبيقها، فلماذا ترفضها تيارات وطنية وقومية ودينية عريضة، تغذيها مشاعر التوجس من كل دعوة أميركية، مهما صرخت الأصوات من حولها داعية مروجة؟!
ونجيب في نقاط محددة، أولها: ان الكفاح الوطني والقومي من أجل الإصلاح الديمقراطي، يجب أن يعتمد على تجربته وقواه الذاتية أولا، وإن ظل مستفيدا من البيئة العالمية المناصرة للديمقراطية من دون انعزال أو خصومة، وثانيا: ان الاختطاف الأميركي للديمقراطية ومحاولة فرضها بقرار خارجي وبترويج داخلي، أصبح فاقد الصدقية، لأنه يرتبط أساسا بحماية المصالح الأميركية - والإسرائيلية بالتبعية - ولا يعبّر عن المصالح الوطنية والقومية بحال من الأحوال...
وثالثا: ان اختطاف الديمقراطية، مثل اختطاف الطائرات، لابد أن ينتهي نهاية مأسوية، وأظن أننا لسنا في حاجة إلى مزيد من النهايات المأسوية، فقد شبعنا حتى مللنا، وأخيرا نكرر ما سبق أن قلناه على مدى السنوات الماضية، نريد إصلاحا ديمقراطيا بأيدينا، وليس بأيدي غيرنا، حتى لو كانت أميركا...
فلنبحث إذن عن حلول أخرى، غير الاختطاف ونظرياته ومنظريه!
خير الكلام، يقول الكواكبي:
«الحق أبوالبشر، والحرية أمهم»
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 460 - الثلثاء 09 ديسمبر 2003م الموافق 14 شوال 1424هـ