العمل السياسي البحريني شبيه بما كان في ايام الرسول ولكن بالمعكوس. ففي تلك الايام كان الرسول (ص) هو الذي يصر على النزول الى الناس وبعض الناس يريدونه أن يكون معزولا وبعيدا عنهم، لان السياسة (كما فهموها) لها مصدر ناء وبعيد ومتعال وفوقي ومختزل، ولذلك احتجوا على الرسول (ص) لانه كان يمشي في الاسواق ويأكل كما يأكل الناس... في زماننا بعض الماسكين بالأجندة السياسية هم الذين يصرون على البقاء خارج حياة الناس وان الناس يجب عليهم الانصياع لما تصدر تلك المجموعة المتشددة من وصفات سياسية «مختزلة جدّا» حتى لو كانت تلك الاختزالات تختزل كل معاني الحياة وتقللها الى الصفر.
ما بعد «أبوالعيش» التفت عدد لا بأس به من الناشطين إلى ان تركهم الساحة تموج كما تشاء بحسب تصورات وبيانات وتصريحات بعيدة عن حياة الناس اليومية هو ابتعاد بجوهر السياسة التي من المفترض انها ترعى مصالح الناس وتتحرك معهم وليس فوقهم. فالبعض يختار له موقعا فوقيّا معزولا عن حياة الناس الاعتيادية، ثم يقوم بالتنظير ولكن من دون عمق أكاديمي أو إحساس بالجانب العملي، ولذلك لايقدر الا على ترديد شعارات «مختزلة جدا» .
المختزلون للسياسة في عبارة او عبارتين لا يهمهم ما تؤول اليه نتائج ما يقولون لأنهم يعتقدون أن الحياة الاعتيادية ليست مهمة، وهم يترفعون عنها ولا يمشون في أسواقها وغير أسواقها. غير أن المشكلة هي أن ذلك يتسبب في انعدام الصورة الواضحة لواقع ومتطلبات العمل السياسي. وهذا ايضا يحول الجمهور الواسع الذي يتحرك في هذا الاتجاه او ذاك إلى اصوات تردد الشعارات الصاخبة والمختزلة من دون محتوى حقيقي يساعد على الاستفادة مما هو موجود من أجل توسيع دائرة الاصلاح والمطالبة بالمزيد من الحقوق.
ما بعد «ابوالعيش» بدا واضحا لمن يحب الخير على المستوى البعيد ان ترك الامور تسير وفق أجندة بعيدة عن حياة الناس ومتطلباتها اليومية له خطر على الجميع وليس فقط على الفئة التي احتكرت لنفسها حق إصدار الوصفات السياسية المختزلة. وهذا الإحساس هو ما حرك الحوارات ولأول مرة بصورة أكثر جدية تنظر الى كل الجوانب الفعلية والنظرية والاحتمالية. فلربما ان بعض ما يطرحه محتكرو الأجندة السياسية صحيح ولكن احتكارهم للأجندة واختزالهم للسياسة يقلب الأمور رأسا على عقب. واذا كان ما يقولونه صحيحا فالمفترض ألا يخشوا فسح المجال أمام الآراء الأخرى لطرح الرؤى والافكار التي ترتبط بحياة الناس اكثر من ارتباط الاجندة الحالية بها. فالنزول الى الواقع والمشي في الاسواق وغير الاسواق مع الناس ليس عيبا وليس امرا ثانويا بل انه حجر أساس في اي برنامج سياسي بعيد المدى.
الحوارات الحالية بدأت تطرح سؤالا رفض المتشددون الماسكون بالأجندة حتى الآن الاجابة عليه، وهو: اين برنامج العمل، ومتى سيتم طرح الخطط السياسية للنقاش بوضوح ومن دون اختزال؟
الحوارات الحالية هي الأكثر ايجابية منذ فترة ليست قصيرة مرت علينا والبعض منشغل بترديد جمل مختصرة جدا يطرب فيها كما يطرب بعض المغنين باحدى الاغاني التي تتحدث عن الماضي وتثير الحسرة والندامة على انعدام الماضي، وتتأسف على الاستمرار في الحياة!
الاستعداد لانتخابات الوفاق تزامن مع «ابو العيش»، وما بعد ابو العيش تحركت العملية الانتخابية بعد ان قاربت على الجمود. وماحركها هو ايمان الذين همشوا في الماضي بان الاصلاح بدا ممكنا بعد ان كان عدد من المتشددين هو الذي يحدد «مسبقا» من الذي سيفوز في الانتخابات، ومن سيتحدث عن ماذا. مابعد «ابو العيش» بدأ التحرر من الاختزال الذي اختزل الفكر والطاقات وكاد يؤدي الى تشرذمها، وهي نعمة اخرى لم تكن متوقعة قبل «ابو العيش»
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 460 - الثلثاء 09 ديسمبر 2003م الموافق 14 شوال 1424هـ