الأسبوع الماضي كان أسبوعا مميزا في بيروت، انه اللقاء السنوي الثاني لمؤسسة الفكر العربي، عدد الحضور ونوعيته كانا أحد شواهد نجاح المؤسسة في استقطاب هذا العدد الكبير والقدرة على تنظيم هذا اللقاء الحاشد، وأحسب أن الكثيرين سيكتبون عن هذا اللقاء العربي الكبير، الذي حضر افتتاحه رئيس الجمهورية اللبنانية مصحوبا بالرئيسين، رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء، بجانب عدد كبير من أهل الرأي و السياسة العرب.
أكتب عن انطباعاتي في هذا اللقاء الذي ضم عددا وافرا من الكتاب و المثقفين العرب، وآخرين غيرهم ربما جذبتهم الأسماء الكبيرة، أو جذبتهم بيروت بحد ذاتها، وهي انطباعات مراقب من وسط الحدث.
كان طبيعيّا أن تتفاوت القدرات البحثية في البحوث المقدمة، وتتفاوت أيضا التعليقات التي انصبت على الأبحاث أو التلخيصات، أما البعض فقد أراد أن يحضر ويتكلم فقط، ربما من أجل الحضور و شهوة الكلام لا غير.
فكرة مؤسسة الفكر العربي هي فكرة رائدة، إنها تزاوج بين رأس المال العربي والفكر العربي، لتقديم شيء نافع إلى هذه الأمة، وربما تأتي أهميتها أيضا من أن التفكير فيها وبدء التحضير لها جاء قبل الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول المشئوم، الأمر الذي يتجاهله البعض، وذلك يعني أن المهمومين بالشأن العربي لاحظوا مبكرا مدى التدهور الذي وصلنا إليه، وأرادوا أن يوفدوا شمعة، وذلك يحسب للمؤسسين، وهي مؤسسة أهلية لها شخصية مستقلة، وهذه أهم صفة فيها. فالمؤسسات العربية الثقافية إما أن ترعاها وتمولها دولة بأموال رسمية لا تخلو من الغرض، أو بجهد متواضع من الأفراد لا يغني ولا يشبع.
سأحاول سرد بعض ايجابيات مما شاهدت في لقاء بيروت، ممزوجا بسلبيات لا تعطل ولكنها تزعج.
لقد تحدث في الجلسات على امتداد ثلاثة أيام كل من أراد أن يتحدث، بعضهم كان فكره في الشرق وبعضهم كان فكره في الغرب، وكنت سعيدا بهذا، لان قمع أي فكر أو فكرة أو اتجاه يقودنا إلى طريق مسدود كثيرا ما عانينا منه، أما إطلاق الفكر وتداول الآراء لتتصارع في جو صحي، فذاك أفضل سبيل عربي اليوم لتخطي المعضلات التي نواجهها، هذا الانفتاح الفكري لم يمكن يروق للبعض، وقد أسر لي بعض من حضر أن هناك الكثير من الغث من التعليقات بحسب وجهة نظرهم، وأردف آخرون أن بعض المعلقين لا يعرف على وجه التحديد ما يقال في الجلسات، أو ما يريد هو أن يقول، وكانت إجابتي على ذلك كله، اننا بقمع الآخر وصلنا إلى ما وصلنا اليه من تدهور سياسي وثقافي، وعن قمع البعض اما إلى شهيد أو بطل، وبسبب هذا القمع تعاطف معه الكثيرون، من دون أن يعرفوا حقيقة فكره، وذكرت لمحدثي ما شاهدت منذ أسابيع، عندما تحدث أحد الزعماء الجزائريين على شاشة إحدى الفضائيات العربية، فقد وجدت أن كثيرا مما قاله يفتقد المنطق السليم، ولو منع هذا الشخص من الخروج من الجزائر، أو أدخل السجن، لتحول إلى بطل يتبعه العامة من دون معرفة بحقيقة أفكاره. فالأصل في تفادي الاختناقات السياسية التي تقود إلى الكوارث وربما الإرهاب بشكل ما، هو أن يترك الجميع ليعبروا عن آرائهم، وليس هناك أحد وصيا على الآخرين، فالناس تفكر بعقولها، وبالحوار تنضج القضايا ويفرز الفكر البناء والمفيد من الأفكار الساذجة، وعلينا أن نثق بقدرة الجمهور على التحليل والحكم، في الوقت الذي يجب الحرص على أن نقدم إليه فكرا مفيدا وعاقلا ومنطقيا .
هكذا تم الحوار في بيروت، حوار موسع وكبير، مفيد وعاقل، اشترك فيه الجميع بمختلف قدراتهم المعرفية، بعضهم له قدرات معرفية متواضعة، وآخرون استطاعوا الإقناع بوجهة نظرهم، المهم ان هذا الحوار لم يكن بين جدران أربعة، بل كان منقولا على شاشات التلفزيون أيضا، ووصل إلى الجمهور العريض، خارج قاعات الاجتماع، الخلاف في الرأي في القضايا العامة لا يحله الاحتجاب عن الآخر ولا يصل النزاع فيه إلى نتيجة، الخلاف في الرأي يقربه الحوار العقلي المنظم.
شاهدت أيضا تجربة فريدة من تجارب العرب الحديثة وهي إشراك مجموعة من الشباب في الحوار وفي كل جلسة من جلساته، يعلقون على ما يقوله الكبار، يتفقون معهم في القليل، ويختلفون معهم في الكثير، لا بسبب أن أفكارهم هي الأكثر نضجا، ولكن ربما بسبب انه لأول مرة يجد هؤلاء الشباب منبرا يتحدثون منه إلى جمهور عريض من الكبار، وينصت إليهم الكبار بل ويصفقون إلى بعض ما يقوله هؤلاء الشباب، لقد كان مشهدا رائعا حقا إشراك الجيل الجديد في النقاش، وأكثر منه روعة عندما اجتمع الشباب أنفسهم في لقاء خاص بهم ليقيموا سير الندوات، وما قيل فيها، ووزن كل قول، ذلك تواصل بين الأجيال حميد ومفيد. وكان للمرأة دورها أيضا سواء في الحضور أو المناقشة أو التكريم، فالمجتمع العربي لا يستطيع أن يتقدم وهو يعزل جزءا عزيزا منه خلف الجدران.
الإيجابية الأخرى ان رجال السياسة اشتركوا مع رجال الفكر في الحوار، وهي ظاهرة تحدث على هذا النطاق الواسع للمرة الأولى، لقد جاء السفراء و الوزراء وحتى رئيس للوزراء من أجل الحوار المفتوح وغير المقيد، واسمعوا وسمعوا، بل اشترك أيضا بعض الضيوف من دول غير عربية، منها إيران و بعض المفكرين من الأوروبيين و الأميركان أيضا.
كانت الجلسة الحوارية التي ضمت متحدثين من الولايات المتحدة ومن العرب جلسة لافتة للنظر، فقد سمع الأميركيون ما يفكر به الشارع العربي، كما سمع الجمهور العربي ما يفكر به أهل الساسة الأميركان، وكان لقاء مشوبا بالتحفز، ولكنه أدى غرضه.
هناك الكثير من الايجابيات، ولكن المؤتمر الثاني لمؤسسة الفكر العربي لم يكن خاليا من السلبيات، فقد وجد البعض أن هناك فرصة جيدة للاستعراض الكلامي، بل والشخصي، ومن كان في رأسه موال أراد أن يسمع المجتمعين ذلك الموال بصرف النظر عن قربه أو بعده من القضايا المطروحة، إنها آفة البعض منا، وهي آفة حتى الآن لا أستطيع أن أجد لها تفسيرا، تحدث في التجمعات العربية، وربما معالجتها تتم مع الزمن بفتح مزيد من أبواب الحوار، ولعل من أطرفها عندما وقفت سيدة قدمت مداخلة طويلة، ثم انتهت بإعلان أن لها دفتر مذكرات قد فقد في القاعة، ومن يجده عليه أن يسلمه إياها.
متداخل آخر بدأ مداخلته بخطبة عصماء، ذكرت الجميع رمزيا بالشعار المقيت الذي ردده بعض العرب (بالروح بالدم).مثل هذه الخُطب يميل إليها الكثيرون، ويستغلها البعض ولكنها في نهاية المطاف تعيد إنتاج ما نشكو منه، الكثير من الحماس والقليل من العمل.
الخطابية في الثقافة العربية لصيقة بالسلوك العام، والطريق إلى الخروج من أسر الخطابية طريق طويل، وتنظيم الحوار بين العرب يحتاج إلى مجهود كبير، حتى يقبل العرب بسقف معقول من الحوار بينهم، وتداول الرأي الآخر بطريقة حضارية.
إلا أن جملة ما تم في بيروت وفي المؤتمر الثاني للمؤسسة كانت محصلته إيجابية، وقد وافق الغالبية على أن الحوار السلمي العاقل هو الطريق الذي لا يوجد طريق غيره لإنضاج الحلول و تلمس طرق الخروج مما نحن فيه.
وقد بدأت المؤسسة هذا الجهد الكبير بفضل مجموعة من المؤمنين العرب بقدرة وقدر أمتهم، وهم رجال سيذكرهم تاريخ الثقافة العربية، إلا أن الطريق طويل وشاق وفيه من الصعوبات الكثير، ولكن المسيرة بدأت
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 459 - الإثنين 08 ديسمبر 2003م الموافق 13 شوال 1424هـ