العرب والمسلمون كانوا متطورين جدا (مقارنة بغيرهم من الأمم) في علوم كثيرة من بينها الكيمياء، حتى ان التاريخ يحدثنا عن مختبر كيمياوي في الكوفة فصل المواد مختبريا على يد جابر بن حيان في منتصف القرن الثامن الميلادي، وهو احد تلامذة الامام جعفر الصادق (ع) ويذكر التاريخ انه الف 500 بحث في الكيمياء. ولكن أحد الاسباب التي أدت إلى انتهاء ذلك التقدم هو اختلاط العلوم المتطورة آنذاك بالسحر والشعوذة، وأصبح الكيمياويون لاحقا لا يفرقون كثيرا بين الخرافة والعلم الملموس. بل ان هدف أكثرية الكيمياويين تحول الى البحث عن «اكسير الحياة» والى تحويل المعادن (مختبريا) الى الذهب. معظم الجهود العظيمة تبعثرت ولم يتم انتاج «الاكسير»، وتحولت غالبية الكيمياويين في النهاية إلى الشعوذة والتعويذات والاتصال بالجن وتحضير أرواح الأموات للتحدث إليها... إلخ.
العمل السياسي البحريني مهدد بالأمر نفسه، وهو ما بدأ يتضح بعد مسرحية «أبوالعيش». «فالاكسير» الذي تتحدث عنه بعض الفعاليات السياسية ليس كله خطأ، ولكن الضياع - الذي يؤدي اليه «الوله» و«الالتهاء» بترديد بعض المقولات والشعارات المختزلة التي حاولت تفسير ما يجري على الساحة وجرها الى ما لا نفع فيه - بدا أكثر وضوحا مع حيثيات «أبوالعيش».
فالمعارضة كانت أكثر وعيا قبل فترة الانفتاح، ولم تكن اسيرة شعارات مختزلة جدا تصدر من طرف واحد وتفرض على الجميع بأساليب مختلفة من بينها الاتهام بالخيانة والعمالة ... الخ. أما بعد المرحلة الانفتاحية فقد جمدت الشعارات وأصبحت مختصرة ومغلقة بعد ان اغلق باب الحوار، واصبحت الساحة تهيج وتتغنى بشعارات تشبه تغني بعض علماء العرب بـ «إكسير الحياة» قبل ان يتحول علمهم إلى الخزعبلات.
«الاكسير» السياسي - الذي تم توصيفه بصورة مختزلة جدا وتم تحشيد الناس عليه واصدار بيانات مختلفة بعضها باسماء محسوبة على الاتجاه الذي تمثله «الوفاق» - بدأ يقترب من الهلوسة السياسية التي تكاد تلتهم الطاقات وترسلها على بعضها الآخر في اقتتال داخلي لتصفية أي شخص لا يوافق على «الوصفات المختزلة جدا».
«الاكسير» السياسي يشبه «الاكسير» الكيمياوي القديم الذي اضاع جهود التطور العلمي آنذاك، فبدلا من اعادة توجيه الطاقات ومساءلة الذات - فيما اذا كان هناك «أكسير» من الاساس لنبحث عنه - تواصلت الجهود حتى تبعثرت وضاعت في النهاية.
بعد «أبوالعيش» بدأت الاصوات تتعالى وتحتج على الذين احتكروا اصدار الوصفات المختزلة جدا التي تتحدث عن الاسلوب الوحيد الاوحد، والتنظير الوحيد الاوحد، والمستقبل الوحيد الأوحد، للحصول على «الاكسير» السياسي. وفي الاسابيع الماضية عندما كان أصحاب وصفات «الاكسير» يمسكون بكل شيء - وهم السياسيون الاطهار وغيرهم دون ذلك ويجب فضح خيانتهم وعمالتهم وانهزامهم - أصبح هؤلاء هم الذين تسألهم الناس عما قالوه ويقولونه، وعما قاموا به ويقومون به، وعما استهدفوه ويستهدفونه، وعما رددوه من شعارات مختزلة جدا ومازالوا يرددونها.
«الاكسير» السياسي لم يعد «اكسيرا» وانما مقولات ارتجالية واجتهادات فردية وزمانية ومكانية يمكن مناقشتها والاعتراض عليها لانها ليست وحيا منزلا، وهناك اكثر من فرد في هذه الجماعة أو تلك، وهناك الزمان المتحرك يوميا، وهناك العوامل الاخرى المتداخلة، وهناك الحق الذي لا يمكن سلبه وهو حق التعبير عن الرأي بشأن هذا الموضوع أو ذاك.
ما بعد «أبوالعيش» انقشع الغبار «قليلا» ليوضح الصورة لكثير من الناس، وليؤكد عزيمة الآخرين الذين تعطلت طاقاتهم بينما كان البعض يحشّد باتجاه «اكسير» سياسي يخلط الواقع بالخيال ويضيع الجهود إلى لا شيء
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 459 - الإثنين 08 ديسمبر 2003م الموافق 13 شوال 1424هـ