الكلام عن خطأ الربط بين التحديث العربي (الحداثة الاسلامية) وبين حملة نابليون على مصر وثم فلسطين هو مجرد عنوان عريض عن أمثلة كثيرة تشير إلى أزمة الخطاب العربي المعاصر ومشكلاته التي لا تحصى ولا تعد. هذه الأزمة مستمرة وهي كلها تصب في اتجاه واحد وهو ان وقائع التاريخ (الماضي) تؤكد مجددا على تحولات الحاضر. فالتاريخ يكشف وأحيانا يفضح الحقائق التي تتحكم في مسارات التحول. واستتباعا لحملة نابليون يمكن سحب الكلام نفسه على حملة جورج بوش على المنطقة. فالوقائع تشير إلى ان بوش مجرد قائد حملة عسكرية يريد منها الخداع السياسي لتمرير مشروع كبير يبدأ في أفغانستان وينتهي في فلسطين. وحتى تنجح حملته كان لابد من طرح شعارات سياسية تزيف الدوافع الحقيقية للهجوم العسكري مثل التنمية والديمقراطية ومحاربة الفساد والدكتاتورية... وأخيرا تحديث المنطقة.
التحديث في المنطقة العربية مضى عليه أكثر من قرنين وبداياته الجنينية بدأت قبل حملة نابليون بعشرات السنين، وجاء أصلا بعد سلسلة صدمات عسكرية تلقتها السلطنة العثمانية على جبهاتها الحربية في أوروبا.
التحديث ليس ايديولوجيا انه حاجة. والحاجة آنذاك فرضت على السلطنة تحديث مؤسساتها وتحديدا الجيش، كذلك تطوير أجهزة الدولة وعلاقاتها وتنظيماتها. فعصر التنظيمات كان بدأ في عهد سليمان الاول (القانوني) وسمي بالقانوني لكثرة تدوينه القوانين.
توفي سليمان القانوني في العام 1566 بعد أن أسس القواعد الأولى للحداثة العثمانية (الإسلامية - العربية) الا أن المشكلة كانت ومازالت في ان منطق التحديث بدأ من رأس الدولة الى المجتمع وليس من المجتمع إلى الدولة الأمر الذي اوجد فجوة بين حداثة الدولة وتخلف المجتمع.
هذا التحديث الفوقي تحوّل لاحقا إلى نوع من الحروب الأهلية الصغيرة كما حصل حين انقلب السلطان محمود الثاني (توفي 1839) على الانكشارية وأبادهم وفعل الأمر نفسه والي مصر محمد علي (1805 - 1849) حين انقلب على بقايا المماليك وأبادهم. وانتهت المسألة بنشوب حرب نفوذ على بلاد الشام بين السلطان محمود الثاني والوالي محمد علي كادت ان تقوض أسس الدولة الاسلامية.
المشكلة اذا ليست في التحديث وإنما في بداياته التي انطلقت من الرأس (السلطان) واستخدمت آليات قهرية (استبدادية) ضد المجتمع لفرض نوع من التقدم الذي يخدم حاجات الدولة ولا يؤسس لعلاقات حديثة (متطورة) مع الناس. فالتحديث وهو غير الحداثة بدأ من الجيش (المؤسسة العسكرية) ومنه انتقل إلى المؤسسات المدنية مستخدما أسلوب القوة ووسائل البطش التي أسهمت في تجويف التحديث وعزله عن قاعدته البشرية المحلية.
وبسبب تلك الوسائل الفوقية (القهرية) أنتجت «الحداثة» نقيضها السياسي - الديني نظرا إلى انعدام التفاهم بين الدولة (السلطانية) والمجتمع الأهلي (الاسلام) فبرزت الى جانب «الحداثة» قوى تتمتع بشعبية سياسية متأصلة في روح المجتمع وهويته.
هذه المشكلة التاريخية (آليات التطور المحلي) أضيفت اليها مشكلة أخرى هي ان التحديث العربي (الاسلامي - السلطاني سابقا) جرى تأسيسه وفق حاجات السوق الدولية وليس ردا على حاجات موضعية تمس متطلبات الناس الجوهرية.
مثلا بعد فشل نابليون في حملته على مصر استدرجت المنطقة إلى قلب الصراع الدولي آنذاك (فرنسا وبريطانيا) ودخلت أسرة محمد علي باشا (وابنه ابراهيم باشا) في معركة مع المنطقة لبسط نفوذها على الحجاز وبلاد الشام بالضد من السلطنة. هذا الأمر أورث الاسرة الحاكمة مشكلات كثيرة من ديون واجراءات تنظيمية لم تكن متناسبة مع نسبة التطور الاجتماعي الذي كانت تمر به بلاد النيل. وانتهت تلك الاجراءات بشق قناة السويس التي افتتحت في عهد سعيد باشا سنة 1869م.
شق قناة السويس إنجاز هندسي عظيم وهو جزء من التطور الحديث. الا انه في سياقه التاريخي جاء خدمة للشركات الاوروبية (مصانع وبواخر) وهو مجرد قناة عبور يرفد الخزينة بالمال ولكنه لا يرفد المجتمع آنذاك بحاجاته الحقيقية.
هذا النوع من التحديث (والحداثة في وجوهها المختلفة) أوصل المنطقة العربية (والاسلامية) الى مأزق تاريخي يقوم على توتر دائم بين الدولة من جهة والمجتمع من جهة. فالدولة مضطرة الى التحديث لأنها تجد فيه ردا على حاجاتها والمجتمع متخوف منه لانه غير مشارك في صنعه فهو مجرد شاهد يتفرج على تحديث تنجزه شركات ومؤسسات ومصارف أجنبية استقدمت من الخارج ولا صلة ميدانية له بكل ما يراه من «حداثة» يقال انها صنعت من أجل خدمته.
مأزق الحداثة يشبه الى حد كبير أزمة التحديث. فالحداثة (شعرا وأدبا) أسقطت أيضا «من فوق» في محاولة منها لفرض هيمنتها الايديولوجية على المجتمع مستفيدة من حاجات الدولة (القهرية) إلى التحديث. وهذا هو جوهر الانسداد التاريخي الذي تمر به المنطقة العربية منذ عهود سابقة لحملة نابليون. فالمشكلة ليست في التحديث وانما في الوسائط والأولويات التي دخلت منها المنطقة عصر الحداثة... والعولمة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 458 - الأحد 07 ديسمبر 2003م الموافق 12 شوال 1424هـ