كثر الحديث في هذه الأيام عن أوضاع حقوق الإنسان في تونس ومنطقة المغرب العربي. ويعود ذلك إلى عدة أسباب، بعضها داخلي وأخرى لها صلة بالمتغيرات الجارية على الساحة الدولية. وعلى رغم أن ذلك من شأنه أن يثير انزعاج الحكومات المغاربية، التي مثلها مثل بقية الأنظمة العربية، لا تزال تعتبر التصرف في حقوق مواطنيها وكيفية إدارة العلاقة بالمجتمع من صلاحياتها الأساسية، غير أن هذه الحكومات تصرفت هذه المرة بكثير من الهدوء، وبأقل ما يمكن من التشنج.
كما أن مواقف النخب المحلية اتسمت بدورها بنوع من التردد بشأن كيفية استثمار ما قد يبدو ضغوطا غير مباشرة لتوسيع قاعدة الحريات من قبل دول ذات مصالح وأهداف مشبوهة أحيانا.
باول وحقوق الإنسان
أسباب عدة جعلت من أوضاع حقوق الإنسان في دول المغرب العربي تصبح محل اهتمام صناع القرار في أكثر من بلد غربي، وتشد اهتمام وسائل الإعلام الأوروبية بالخصوص.
لقد وفرت جولة وزير الخارجية الاميركي (كولن باول) وقمة (خمسة زائد خمسة) فرصة لربط التعاون الاقتصادي والأمني بملف الحريات والديمقراطية. ففي رد له عن سؤال طرحه أحد الصحافيين الاميركيين الذين كانوا ضمن الوفد بشأن ما إذا قد تعرض لملف الحريات وحقوق الإنسان في محادثاته مع الرئيس بن علي، أشار باول إلى كثير من الخطوات الإيجابية التي تحققت في تونس خصوصا فيما يتعلق بحقوق المرأة والتعليم ومكافحة الأمية، كما أشاد بالقرار الأخير الذي تم بموجبه إطلاق سراح أحد سجناء الرأي (يقصد بذلك الشاب زهير اليحياوي الذي سجن بسبب قبل سنة ونصف بسبب معلومات وردت في موقع ألكتروني معارض للحكومة). وذكر أن تونس قدمت أشياء كثيرة في هذا المجال، «لهذا نطلب منها تقديم المزيد »، مضيفا أن «الشعب التونسي ينتظر مزيدا من الإصلاحات السياسية وانفتاحا أكبر على المجتمع ». وقال «إني شجعت المسئولين التونسيين الذين التقيت بهم على مواصلة الإصلاحات السياسية والاقتصادية ». وأنه أكد في محادثاته على «ضرورة قيام صحافة حرة في تونس ».
وإذا كان باول قد أعطى الأولوية في تونس لملف الصحافة، حيث بقي الإعلام كسيحا وفاقدا للتنوع والاستقلالية وحرية النقد والوصول إلى مصادر المعلومات، فإنه أثار في الجزائر مسألة الانتخابات الرئاسية المقبلة، وطالب الرئيس بوتفليقة وحكومته بأن تكون هذه الانتخابات شفافة ونزيهة.
المنظمات الدولية استغلت الظرف
المعلوم أن كولن باول قد تلقى الكثير من الرسائل والنداءات من قبل منظمات اميركية ودولية تحثه على ضرورة الضغط على حكومات المغرب العربي، ومن بينها تونس لدفعها نحو احترام حقوق الإنسان وفتح المجال أمام حرية الصحافة. ومن بين هذه المنظمات «الراصد لحقوق الإنسان »، و«مراسلون بلا حدود» و«منظمة العفو الدولية» و«الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان». واعتبرت هذه المنظمات وغيرها جولة باول المغاربية فرصة لاختبار مدى جدية إدارة الرئيس بوش في ادعاءاتها بشأن نشر الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط.
ما حصل مع باول تكرر بشكل ربما أكثر كثافة مع الرئيس الفرنسي (جاك شيراك) الذي تلقى قبل وصوله إلى تونس، عشرات الرسائل والنداءات التي حثته على إثارة ملف حقوق الإنسان. ولعل المحاولات الفرنسية غير المباشرة الخاصة بوضعية المحامية التونسية «راضية النصراوي» التي شنت إضرابا عن الطعام منذ الخامس عشر من شهر أكتوبر/ تشرين الأول، مؤشر على الاهتمام الفرنسي الرسمي ببعض المسائل الخاصة بحقوق الإنسان في المنطقة. وإذا كانت قمة خمسة زائد خمسة ستركز على الجوانب الأمنية والاقتصادية بما في ذلك ملف الهجرة السرية غير أن موضوع الديمقراطية والحريات مطورحا بدوره على جدول الأعمال. ولا يستبعد أن تكون باريس هي التي أكدت على ضرورة إدراج هذه المسألة، لأن الحكومات الأوروبية الأخرى المشاركة في المبادرة لم يعرف عنها اهتمام خاص بملف حقوق الإنسان.
مشكلات بالجملة
موضوعيا، تختلف أوضاع حقوق الإنسان والحريات العامة بين دول المغرب العربي.فمثلا لا يمكن مقارنة الحال الليبية إذ لا تزال النخبة المحلية تنتظر من سنوات طويلة كوة صغيرة تمكنها من إدارة حوار داخلي حر وصريح، إذ لا يزال التحزب جريمة كبرى وخيانة لا تغتفر، وبين الحال المغربية التي قطعت شوطا لا بأس به في مجال التحول الديمقراطي. لكن مع ذلك لا يكاد يمر أسبوع أو شهر إلا ويشهد هذا البلد أو ذاك انتهاكا خطيرا أو تثار قضية معقدة خاصة بأحد الحقوق الأساسية للمواطنين.
فالحدث الرئيسي في موريتانيا منذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة هو محاكمة الرئيس السابق وعدد من شخصيات المعارضة المتهمين بمحاولة قلب النظام بالقوة.أما في المغرب، وعلى رغم من الحرية النسبية التي تتمتع بها الصحافة إلا أن الصحافي المرابط لا يزال يقبع في السجن بسبب تهمة اعتبرتها المنظمات المحلية والدولية قضية رأي. وفي الجزائر لا يزال موضوع المفقودين يثير قلق المنظمات الحقوقية، إضافة إلى عدة ملفات أخرى حقوقية لا تزال مطروحة. أما تونس فإن مشكلات كثيرة لا تزال عالقة، خصوصا الوضع المتردي لعشرات المساجين السياسيين من كوادر حركة (النهضة) المحظورة ، والأزمة المتواصلة منذ سنوات مع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وعدد آخر من جمعيات المجتمع المدني وأحزاب المعارضة، إضافة الحصار القوي المضروب على الصحافيين ووسائل الإعلام.
مأزق النخب والحكومات
من هذه الزاوية، يعتبر العامل الداخلي هو السبب الرئيسي في دفع الجهات الأجنبية (اميركية وفرنسية) نحو إثارة ملف حقوق الإنسان.فهذه الجهات لا تفتعل قضايا غير موجودة أو تطرق أبوابا مفتوحة، لكن مع ذلك فإنها تستغل ملف حقوق الإنسان للدخول في نوع من المقايضات مع الأنظمة القائمة، لتحقيق أهداف ومصالح تتجاوز الملف الحقوقي.
فالديمقراطيون في دول المغرب العربي، يشعرون بقلق شديد، عندما ترفع عنهم بعض المضايقات، أو تتوافر قدر من الحريات بسبب ضغوط أجنبية. وهو ما دفع خمسة تنظيمات معرضة في تونس، إلى جانب الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان،إلى تنظيم تجمع أعلنت فيه عن عدم ترحيبها بكولن باول، ورفضها للمطالب الاميركية الخاصة بدمقرطة العالم العربي بما في ذلك تونس ودول المغرب. لكن هذه الأطراف نفسها تعترف بعجزها عن ممارسة الضغوط السلمية الكفيلة بدفع السلطة نحو الانفتاح السياسي. ومن هنا تشعر النخب المحلية بأنها في مأزق حقيقي.والغريب أنه على رغم تفاوت الأوضاع بين دول المنطقة، إلا أن هذا الشعور بالمأزق يبدو شاملا ويتجاوز حدود النخبة التونسية.
السؤال الذي سيبقى مطروحا بعد جولة باول، وانتهاء قمة خمسة زائد خمسة، وحل بعض المشكلات ذات الطابع الفردي، هل يمكن توقع نوع من إرساء أرضية مشتركة بين حكومات المنطقة ومجتمعاتها المدنية تكون قائمة على احترام القانون وإطلاق الحريات وحل الملفات السياسية بالوسائل السياسية، أم أن اللجوء إلى قوى مدنية أو سياسية حكومية خارجية سيبقى الملجأ الأخير، على رغم مخاطره، لدى النخب الوطنية لمعالجة بعض الملفات التي في غالبية الأحيان تكون على غاية من البساطة والجزئية؟.
إنه سؤال مزعج، لكن على الجميع، حكومات ونخب البحث عن حلول جذرية تخرج دول المنطقة من مأزق الاستبداد، وتحمي الأوطان من تصاعد الأطماع الخارجية
العدد 457 - السبت 06 ديسمبر 2003م الموافق 11 شوال 1424هـ