العدد 457 - السبت 06 ديسمبر 2003م الموافق 11 شوال 1424هـ

المسلمون ونابليون

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

حتى أيامنا لاتزال الأقلام «الحداثية» تتحدث عن بداية «النهضة العربية» وصلتها بحملة نابليون على مصر مغيبة كل العوامل الأخرى التي كان لها الدور الأساس في دفع المنطقة الى لعبة الصراع الدولي. وهذا ما نجد ما يشبهه اليوم في بعض كتابات تشير الى نوع من الصلة الوهمية بين «نهضة عربية ثانية» وحملة بوش على العراق والمنطقة. وهذه كذبة ثانية لا تقل خطورة عن تلك الأولى التي تحدثت عن تأثيرات الحملة الفرنسية الايجابية على مصر.

ماذا تقول وقائع التاريخ عن تلك الفترة؟ المؤرخ الجبرتي عاصر حملة نابليون وسجل وقائعها في تاريخه. ويمكن ملاحظة ثلاث محطات في مواقفه. الأولى: الانبهار. والثانية: الحذر. والثالثة: العداء لها.

بداية تحدث الجبرتي باعجاب ودهشة ووصف تلك الأعمال والحيل باسلوب يميل الى الانبهار ببعض ما جلبه نابليون معه من صور واكتشافات واختراعات. وتمنى أن يصل المسلمون الى مستوى يتيح لهم التعلم في صنعها والاستفادة منها. بعد الدهشة بدأ الجبرتي يسجل بعض الملاحظات على اسلوب نابليون في معالجة المشكلات. فبدأ يشك في اخلاصه ومدى التزامه بأقواله الأولى التي أدرجها في بيانه الى المسلمين. بداية الحذر انطلقت حين شكل نابليون «المجلس الانتقالي السياسي» وهو على غرار «مجلس الحكم العراقي» وتألف آنذاك من 12 عضوا جاء مناصفة بين المسلمين والمسيحيين. احتار الجبرتي في هذا الاختيار وانزعج كثيرا من فكرة «المساواة» بين أكثرية تشكل 95 في المئة من المجتمع وأقلية لا يتجاوز تعدادها 5 في المئة.

في أيام نابليون كانت فكرة «المساواة» هي الطاغية على المشروع الفرنسي وهي أيضا تحاكي فكرة «الديمقراطية» في مشروع بوش الأميركي. إلا أن الجبرتي احتار في قراءة تلك «المساواة» وأبدى حذره منها ومخاوفه من أن تكون واسطة لضرب الاسلام والمسلمين من الداخل من خلال زعزعة التوازن التاريخي والاستقرار السياسي والتعايش الحضاري بين الديانتين.

بعد الحذر انتقل الجبرتي الى محطة العداء والكراهية. وتبلور الموقف حين بدأ نابليون يفصح عن جانب آخر من حملته، فتحدث آنذاك عن وطن لليهود في فلسطين وعن ضرورة نقل اليهود من أوروبا الى «بلادهم». ولم يكتف نابليون بالكلام بل نظم حملة ثانية من مصر الى فلسطين لترتيب وضع يسمح بانشاء ذاك الوطن. وأخذ القائد الفرنسي باسقاط المدن الفلسطينية واحدة بعد أخرى الى أن توقفت جيوشه على أبواب عكا فحاصرها، ولكنه فشل في أخذها عنوة بعد أن ضرب مرض الطاعون قواته فانهزم عنها وتراجع واستمر يتراجع الى أن انسحب من مصر عائدا الى بلاده ليخوض معركته الخاصة وهي الاستيلاء على الدولة وتنصيب نفسه امبراطورا. وهذا ما حصل.

في فرنسا تختلف قصة نابليون عن قصته في مصر. فهناك كانت اللعبة مختلفة اذ عمد بعد بسط سيطرته على السلطة الى ربط الكنيسة بالدولة واخضاع رجال الدين لرجال السياسة في العام 1801، وأردف قراره ذاك بقرار آخر أمر فيه بنشر القانون المدني في فرنسا العام 1804، وتحويل الدولة الى علمانية.

في مصر كانت القصة مختلفة اذ كان وراء فكرة «المساواة» مخططات سياسية كبرى تطال المنطقة كلها وعلى رأسها فلسطين. وربما يكون هذا هو السبب الحقيقي وراء فشل حملة نابليون وليس مرض الطاعون الذي تفشى بين قواته على أبواب عكا.

المشكلة ليست هنا. المشكلة في تلك الأقلام «الحداثية» التي تؤرخ بداية النهضة العربية (الاسلامية) بعد انتهاء الحملة الفرنسية. وهذا غير صحيح في منهج الترتيب التاريخي لدخول الحداثة الى المنطقة أو دخول المنطقة عصر الحداثة.

قراءة الحداثة ليست مسألة ايديولوجية بقدر ما هي تاريخية ونتاج التطور الذي يولد حاجات تفرض على الدولة والمجتمع الأخذ بها لتلبية متطلبات الحياة. قيل مثلا ان نابليون جلب أول مطبعة عربية الى المشرق (بولاق) وهذا غير صحيح، لأن الأولى كانت مطبعة دير قزحيا (في شمال لبنان قرب أهدن في وادي قاديشا) اذ تأسست في العام 1610 أي قبل 189 عاما من الحملة الفرنسية. فالتحديث اذا حاجة وليس بدعة وهو يأتي نتاجا للتطور الداخلي وليس باسقاط مظلي على المجتمع وتنظيماته. وهذا حديث آخر

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 457 - السبت 06 ديسمبر 2003م الموافق 11 شوال 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً