العدد 455 - الخميس 04 ديسمبر 2003م الموافق 09 شوال 1424هـ

الفارس الذي نزل عن جواده الأكاديمي ليخدم قضايا الأمة

على خلفية فعاليات الجامعة عن إدوارد سعيد

عبدالله العباسي comments [at] alwasatnews.com

يجب أن نسجل هذا الاعتراف: «ان إقامة كلية الآداب في جامعة البحرين للحلقة النقاشية عن مساهمات إدوارد سعيد، وفي هذه الفترة بالذات، أمر يستحق التقدير والثناء»، فالأمة العربية تمر بمرحلة عصيبة والقضية العربية المحورية على مفترق الطرق، ما يفرض أن ترتفع مراكز الثقافة والفكر في منطقة الخليج خصوصا إلى مستوى التصعيد بمحاولة تسخين دورها الذي تراجع ربما للظروف التي مرت بهذه المنطقة من حروب ومنازعات بين الإخوان الأعداء. فمن حرب طويلة لا مبرر لها استمرت 8 سنوات مع إيران، يعقبها عدوان على الكويت وحصار رهيب على الشعب العراقي لأكثر من عقد من الزمان، واحتلال أميركي للعراق باسم تحريره... كل ذلك حير المواطن العربي وأشغله بحيث اختلط عليه الأمر فلم يعد يعرف ما إذا كان التحرير من مستبد عربي ثمنه أكبر من ذلك الاستبداد وهو الاحتلال الأجنبي.

وما أبأسه من زمن وأخطرها من مرحلة بحيث يبلغ الشعب العراقي ومعه الشعب العربي مستوى من التوتر والتشويش بحيث لا يستطيع حسم قضية مطروحة أمامه فلا يعرف كيف يفتي فيها، هل يرحب باحتلاله بسبب معاناته الطويلة مع محتل متآمر يدعم عدو هذه الأمة بكل إمكاناته؟ أم يترحم على نظام لا يجوز الترحم عليه لأنه كان وراء كل هذه المخازي من اعتزال دولة عربية كالكويت كانت في قمة العطاء القومي، وكفرها، شعبا وحكومة، بالعروبة وسنينها، وربما تندمت بأثر رجعي على كل ما فعلته من أجل هذه العروبة التي باعتها برخص التراب ووقف جلها، إن لم نقل كلها، مع المعتدي العربي بدلا من أن يقف في وجهه ويعيده إلى صوابه وفي مقدمتهم الفلسطينيون أنفسهم، إضافة إلى كل التداعيات التي حدثت في أعقاب ذلك من قبول باتفاقات أوسلو التي دفعت بإدوارد سعيد إلى تقديم استقالته من المجلس الوطني الفلسطيني وكذلك مجموعة من رفاقه ومنهم إبراهيم أبولغد ومحمود درويش وشفيق الحوت وعبدالمحسن القطان.

بل إن سعيدا كان أول الذين انقلبوا على ياسر عرفات بعد انفراده باتخاذ القرار عندما وقع اتفاق أوسلو بسبب تجاهله مواقف الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج متهما إياه بتقديم تنازلات تاريخية، في وقت لم يحصل مقابلها على دولة وإنما على حكم ذاتي. ولو أن أحدا غير سعيد انقلب عليه ورفض اتفاقات أوسلو لربما بقي في القلب بعض الشك، لكن هذا الأكاديمي والمفكر الذي ناضل من أجل القضية الفلسطينية وفرضها على المحافل الدولية وظل ممتطيا جواده... وظل يحارب شاهرا سيفه داخل حلبة، يحيط به الأعداء في عقر دار الصهيونية الكبرى - الولايات المتحدة - من دون تردد أو خوف ومن دون الالتفات إلى الشرر الصادر عن أقلام الكتاب والمؤرخين الأميركان والأوروبيين. ظل يحارب على رغم إصابته بذلك المرض القاتل منذ الثمانينات إلى أن غيّبهُ الموت في يوم 26 سبتمبر/أيلول الماضي، بل إن الحقائق تؤكد أنه لم يرد أن يموت وقاوم ليدافع عن القضية باعترافه هو، إذ إنه عندما كتب إليه الصحافي المعروف روبرت فيسك مقالا في صحيفة «الإندبندنت» يقول فيه إنه التقى صديقه سعيد آخر مرة في بيروت، وكانت علامات المرض مرسومة على وجهه الهزيل المغطى بطبقة خفيفة من الشعر الابيض، فلما قال له فيسك إننا بحاجة إليك حيا، أجابه إدوارد سعيد بنبرة عسكرية: «لن أموت... لأنه هناك غالبية من الناس يريدون موتي». كما أورد هذا المشهد الكاتب اللبناني سليم نصار في مقال له في صحيفة «الحياة» تحت عنوان «المحارب إدوارد سعيد في وصيته الأخيرة». وإذا كان الموت قد أزاح عن طريق الإسرائيليين مناضلا شرسا يقف بكل صلابة في وجه الإعلام الإسرائيلي في الولايات المتحدة وأوروبا وأفرحهم ذلك، أرجو ألا يفرح عرفات ومؤيدوه أيضا لأن الموت أزاح من عارض اتفاق أسلو بالشراسة نفسها، وكان إدوارد سعيد محقا فعلا حين كتب لعرفات يقول: «مثلما يطلب اليهود من العالم الاعتراف بمأساتهم، كان من الواجب على الأقل انتزاع اعتراف من رابين وبيريز بالظلم الذي ألحقته «إسرائيل» بالفلسطينيين بقصد إحقاق العدل لا بقصد الانتقام».

لهذه الاسباب كلها، إضافة إلى ضرورة تشجيع المراكز الثقافية والأكاديمية والعلمية كل المثقفين المناضلين من أجل قضايا الأمة وتأكيد أن الأمة لن تنساهم وهم في عيونها ولكي تسجل موقفها باعتبارها صرحا علميا مع أو ضد أطروحات كل مناضل، وخصوصا في حجم إدوارد سعيد، لابد من مراجعات حقيقية لأفكاره.

وما تفعله جامعة البحرين يصب في هذا الاتجاه الصحيح، ومن حق القائمين على الحلقة النقاشية عن مساهمات هذا المفكر المناضل، الشكر على هذه المبادرة التي جاءت سريعة.

وهناك سبب لا يجب أن نتناساه، إذ إن نظرية سعيد بإقامة دولة علمانية ديمقراطية تتعايش في ظلها القوميتان معا، مازالت محل جدل، ولا يعيب المرحوم إدوارد أو ينتقص من مكانته، ظهور قناعات أخرى من خلال هذه الدراسات المقدمة، فالشعب العربي بحاجة فعلية إلى أن يقف على الحقيقة... أيها أقرب إلى مصلحة الشعب الفلسطيني: الدولة الموحدة أم دولتان متجاورتان يعيش الشعبان فيهما بسلام؟ وهل كانت اتفاقات أوسلو خيرا أم شرا للشعب الفلسطيني؟ وهل كان سعيد محقا في هجومه الكبير الذي شنه على القيادة الفلسطينية واتخاذه ذلك الموقف الرافض لاتفاق أوسلو أم لا؟

ومهما كان رأي هؤلاء في أطروحات الفارس الراحل فإن ذلك لا يهز مكانة هذا الأكاديمي الذي نزل من برجه العاجي إلى المجتمع، والذي وصفه أستاذ العلوم السياسية في جامعة دارتموث في الولايات المتحدة نصير عاروري بقوله: «كان له مع عدد من زملائه الفضل في وضع أسس حقل دراسات ما بعد الكولونيالية، وصاغ الوسائل المنهجية واللغوية اللازمة لمساعدتنا على فهم طبيعة الإمبريالية وتأثيرها الخبيث على المجتمعات الكولونيالية في أنحاء العالم، وكان من بين مساهماته الرئيسية الأخرى كشف العلاقة بين الثقافة والسلطة، وبيّن في كتبه «الاستشراق»، «الثقافة والإمبريالية»، «بعد السماء الأخير»، «تمثلات المثقف»، «تغطية الإسلام، «بدايات» ترسخ تبريرات الإمبريالية في المخيلة الثقافية العربية لذلك العصر»، ويضيف:

«وهناك طبعا إدوارد سعيد الباحث العالمي الشهرة، لكن هناك أيضا إدوارد سعيد الناشط والملتزم، وهي ازدواجية نادرة لدى غالبية الذين يضارعونه في المكانة، فقد بدا ارستقراطيا دوما من حيث السلوك والمظهر وأسلوب العيش، لكن كتاباته ومحاضراته ونشاطاته السياسية شكلت تكاملا بين الحياة الأكاديمية والمجتمع المدني، وكان إدوارد الباحث الناشط بامتياز ودافع عن قضية فلسطين في منابر كانت بعيدة عن متناول المسحوقين، مثل قاعات المحاضرات ومنصات الأوركسترا».

وخير من وصفه من بين المثقفين والكتّاب العرب الناقد السعودي عبدالله الغذامي الذي قال عنه: «رجل بحجم أمة، حمل على كفه ضمير المثقف العالمي الإنساني، وتحدى أعتى الظروف والعقبات، وأطل برأسه العملاق في عقر دار الرأسمالية والسلطوية والنفوذ المتعالي، في نيويورك. جاء وهو الفلسطيني الهارب من الجحيم ومن رحم المآسي، وكافح من أجل الضمير الإنساني ليعطي مثالا للبشرية كلها بأن العقل قوة وقدرة وشجاعة، وأن سلاح العقل لا يقهره أحد. لقد مثل إدوارد سعيد العقل الإنساني، بأقصى قدراته وبأشد تجلياته وأوضحها، باعتباره نموذجا للعالم الثالث ومثقفيه ورمزا للمواجهة والتحدي، وأثبت أن الإنسان المفرد الذي لا يملك أسلحة نووية ولا يملك أموالا ووجاهات يستطيع أن يتحدى ويواجه، إذا سخر عقله وضميره، ونقى هذا الضمير من الخوف ومن الطمع، ومن هنا كان إدوار سعيد أكبر من كل القوى وأخطر من كل التحديات».

ربما يتبادر سؤال فيه مزج بين السذاجة والواقعية هو: كيف تحدى إدوارد سعيد الإعلام الإسرائيلي والصهيونية المسيطرة على المجالس الحاكمة في الولايات المتحدة وإعلامها؟ والجواب هو ما قاله الغذامي: لأنه اعتمد على خيار العقل وخيار الجدل وخيار «وجادلهم بالتي هي أحسن» والقول الليّن، إلى جانب الطرح العلماني المنطقي الذي ذكره الممثل العام الفلسطيني في المملكة المتحدة والفاتيكان عفيف صاغية ضمن مقال له عن الراحل الكبير إذ قال:

«لقد واصل إدوارد طيلة حياته إدانة كل تعابير كره اليهود وكره الإسلام، ولم يقم أبدا بالمقارنة بين حجم المعاناة لدى مختلف الفئات والشعوب، كما لم يقترح أي أسلوب أو منهج لقياس حجم الألم أو احتساب العذاب.

لكل قوم أو فئة ما تعتبره الحدث الأبشع في التاريخ. فلو كنت يهوديا أو غجريا فلا شك في أن ذلك سيكون المحرقة النازية. ولو كنت أسودا أفريقيا فالأبشع ظاهرة العبودية والفصل العنصري. ولو كنت من سكان أميركا الأصليين (الهنود الحمر) لكان ذلك اكتشاف العالم الجديد من جانب الأوروبيين. ولو كنت أرمنيا لكان الأبشع المجازر التركية - العثمانية مطلع القرن الماضي. أما إذا كنت فلسطينيا فلا شيء يفوق النكبة بشاعة. المعنى أن العذاب الإنساني ليس حكرا على أحد، وليس من الحكمة أن نحاول ترسيم تراتبية للمعاناة، بل على الإنسانية أن تعتبر كل هذه الكوارث كريهة أخلاقيا ومرفوضة سياسيا. وها هي الإنسانية تبدأ في شكل متزايد بالتعبير عن التزامها مبدأ وحدة البشرية، هذا أيضا ندين به جميعنا إلى إدوارد سعيد».

إن إدوارد سعيد بتنوع مواهبه من فن وموسيقى وفكر وأدب ومعرفة بالفلسفة، حيثما كنت تقرأ في مؤلفاته الكثيرة وخصوصا «الاستشراق والثقافة والإمبريالية» ذلك المزج بين السياسة والأدب والسيكولوجيا والفن وغير ذلك، استطاع أن يعرف الفكر الإمبريالي والكولونيالية الغربية عندما كشف لنا بكل وضوح برهنته على ترسيخ تبريرات الإمبريالية في المخيلة الثقافية الغربية منذ عصر الإمبراطوريات إلى هذا العصر، إذ يؤكد أنه لايزال يلون كل مستويات العلاقة بين الغرب والعالم الذي خضع سابقا للكولونيالية نفسها، كما يؤكد ذلك عاروري، الذي يرى أن عبقرية إدوارد تكمن في إدراكه حقيقة الاعتماد المتبادل بين كل الثقافات وما يستتبع ذلك من ضرورة اعتراف الغرب ومحكوميه السابقين بعالمية المجتمع الإنساني.

إن إجابات المشاركين في «الحلقة النقاشية عن مساهمات إدوارد سعيد» عن الأسئلة المطروحة في الدعوة الكريمة التي وصلتني للمشاركة، ستنهي الحيرة والانبهار والحزن والخوف الذي أصاب المثقفين العرب والجماهير العربية بخروج هذا الفارس المناضل من الساحة، لتصبح قادرة على إعادة التوازن الذي اختل في نفوسهم، فهي أسئلة منطقية وحساسة كما وردت في الدعوة.

ولكن، ماذا بعد؟ كيف نحتفي بسعيد وكتاباته حقيقة؟ كيف نستعيد درسه؟ كيف نبني عليه؟ وننقده؟ ونتجاوزه؟ كيف نستدرجه إلى داخل المكان الأكثر نبضا وحرارة وفاعلية في المجابهة التي نخوض غمارها؟. وأود لو أضيف: كيف يمكن خلق البديل لملء هذا الفراغ الكبير الذي تركه والذي سيؤثر من دون أدنى شك على مسار القضية الفلسطينية، وخصوصا في مرحلة تراجع كل الفرسان بسبب الرعب الذي فرضته الكولونيالية الأميركية والغربية في هذه المرحلة الحرجة التي يمر بها العالم وخصوصا أمتنا العربية؟ وهل نواصل الطرح نفسه؟ أم هناك ملاحظات ستضيف جديدا إلى أطروحات الراحل المناضل؟ وليكن التوفيق والنجاح وتحقيق الأهداف المنشودة من حلقة المناقشة رائد القائمين على هذه الفعاليات المهمة في حياة أمتنا، ولتكن كذلك بداية انطلاقات أخرى فلا خير في جامعات أشبه بالمدارس الثانوية بعيدة عن خدمة المجتمع والأمة

العدد 455 - الخميس 04 ديسمبر 2003م الموافق 09 شوال 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً