... وانتصرت فلسطين بشعبها المؤمن المجاهد على آلة القتل الإسرائيلية، انتصرت غزة بشعبها الصابر، الصامد، ومقاومتها الباسلة على الوحشية الإسرائيلية... انتصر الإنسان الفلسطيني المملوء إرادة وعزما وتوحيدا على المجازر الصهيونية التي لم توفّر مدارس الأمم المتحدة، ولا المستشفيات، ولا المساجد والمراكز الإعلامية، في إطار سعيها لقتل أكبر عدد ممكن من النساء والشيوخ والأطفال الذين أدهشوا العالم بصبرهم وثباتهم ووقوفهم إلى جانب المقاومة، دونما كلل أو ملل.
انتصرت غزة، لأنها أسقطت أهداف العدو، كما أسقطت أوراق التسوية الواهية، وفرضت على العرب أن يعودوا إلى أنفسهم وإلى أمتهم وقضاياهم، وإن تحت ضغط الصمود البطولي الذي خاف منه بعض العرب أكثر مما خافت منه «إسرائيل»...
انتصرت غزة المجاهدة لتفتح صفحة جديدة في كتاب الأمة، تؤكد فيها أن «إسرائيل» ستكون عاجزة عن شنّ أية حرب في المستقبل، لأنها العاجزة عن احتلال أية مدينة عربية إذا توافرت فيها مستلزمات الصمود، ولو في حدها الأدنى...
انتصرت غزة البطلة، لأنها أنتجت بصمودها مرحلة جديدة سوف تبدأ تباشيرها بالظهور تباعا، لتطل الأمة بشخصيتها الوحدوية لا بأُطرها المذهبية، ولينطلق خط المقاومة والممانعة بروحية جديدة تفرض نفسها على القريب والبعيد، وليتعرّف الكيان الصهيوني الإرهابي على عناصر ردع جديدة في الأمة تجعله يراجع الحسابات آلاف المرات قبل أن يفكر في أية مغامرة جديدة.
أما الغرب بإداراته المتعددة وشخصياته الحاكمة، فقد سقط -ومعه مجلس الأمن الدولي- سقوطا مريعا على المستوى الحضاري والإنساني، في محاولاته الواهية لتبرير الوحشية الإسرائيلية تحت عنوان «الدفاع عن النفس» في مواجهة صواريخ المقاومة، والعالم كله يعلم أن صواريخ المقاومة انطلقت كردّ فعل على الإرهاب الإسرائيلي الذي توالت فصوله في أيام التهدئة، وقد ظهر هذا الإرهاب بأبشع صوره في الجولة الأخيرة من الحرب الإسرائيلية الوحشية التي عملت على تدمير الحجر والبشر، في نطاق الحقد العنصري التلمودي على كل ما هو عربي ومسلم.
إنها معركة الحرية التي تعانقت فيها فلسطين المحتلة مع لبنان الذي قهر العدو في يوليو/ تموز من العام 2006، ومع أن الأثمان كانت كبيرة، حيث تتقارب أرقام الشهداء بين من ارتقوا في غزة ومن ارتقوا في لبنان، إلا أن الأفق السياسي يطل على مرحلة جديدة تؤكد أن الصوت الذي ينبغي أن يرتفع هو صوت إخراج المحتل، ليس من غزة فحسب، بل من كل الأراضي المحتلة، كمقدِّمة لإزالة المستوطنات والجدار العازل، وإعادة القدس إلى أهلها الأصليين الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ومن ثم إخراجه من فلسطين كلها.
قمم عربية وغربية: تباينات في الأهداف والنتائج
لقد مثّلت قمة غزة في الدوحة الصدى الحقيقي لصرخة الشعوب العربية والإسلامية التي تطلّعت إلى وقفة حقيقية مع الشعب الفلسطيني، ومع أن شعوبنا أرادت أن يذهب العرب بعيدا بما يتجاوز تجميد العلاقات مع الكيان الغاصب، إلا أننا نعتقد أن النتائج التي تمخّضت عن بعض المواقف التي أطلقتها هذه القمة كانت لها تردداتها في مواقع أخرى، واجتذبت مواقف قد ينظر إليها العدو -لاحقا- بأنها خارجة عن نطاق «الاعتدال» العربي الذي عمل على حشره في الزاوية من حيث أراد أو لم يرد.
أما قمة شرم الشيخ، التي أظهرت أن قادة دول الاتحاد الأوروبي حاضرون للذهاب إلى أي مكان عندما يستشعرون بأن «إسرائيل» باتت في خطر، فقد انطلقت في خطاباتها لتساوي بين الجلاد والضحية، ولم يصدر عنها أية إدانة للمجازر الوحشية التي ارتكبتها «إسرائيل» ضد المدنيين في غزة، وقد كان العشاء الذي أعقب هذه القمة بدعوة من رئيس وزراء العدو يمثل عشاء العار الذي اختزن الرقص على جثامين الشهداء من الأطفال والنساء والشيوخ الذين أبادتهم المحرقة الصهيونية بآلتها العسكرية، وقذائفها المحرَّمة دوليا، وأرادت للدول الأوروبية أن توقّع على هذه المجازر بتكريم المجرم والنزول عند رغباته.
إن الرئيس الفرنسي يتحدث بلغة تختزن الموافقة على قتل أطفال غزة ونسائها وشيوخها، عندما ينوّه بما أسماه «ديمقراطية دولة «إسرائيل»، وأن من حق «الديمقراطيات أن تشنّ حروبا على تنظيمات غير ديمقراطية»، والحال أن «حماس» انتُخِبت ديمقراطيا بحسب المعايير الغربية، وهي التي تمثل الشرعية من أوسع أبوابها، لأنها الحائزة على أصوات شعبها، ولأنها صاحبة الأرض التي تضمن لها كل الشرائع وكل القوانين الدولية العمل على تحرير أرضها.
إن «ساركوزي» وزملاءه الذين اجتمعوا على مائدة العار تلك لا يملكون جوابا، أو هم يملكون ولكنهم لا يجرؤون على البوح به، فالديمقراطية مرحّب بها ما دامت تحمل إلى السلطة مَن هم مثلهم، ومَن يشبههم في المأكل والملبس والتقاليد والقيم، أما الآخرون، بمن فيهم الشعب الفلسطيني في حركته المقاوِمة، ففي انتظارهم الحروب والقذائف الفسفورية وربما غرف الغاز، لأنهم يمثلون الحق التاريخي الذي يفضح زيف كل هذه الديمقراطيات التي تلحس شعاراتها، وتأكل مبادئها على موائد الذل الإقليمية والدولية.
إن تفسيرنا لهذه الحركة الأوروبية المدعومة أميركيا، والتي تقف الأمم المتحدة على هامشها، هي أن القوم لا يبحثون عن حضور سياسي في المنطقة بقدر ما يحرصون على «إسرائيل» وأمنها واستمرارها، لأنهم يخافون عليها وقد بدأت الأرض تهتز من تحتها، كما يخافون على مشروعهم الذي زرعه أجدادهم في المنطقة قبل ستين عاما ونيّف، وقد رأوا كيف أن الأرض بدأت تلفظه، لأنه جسم غريب على ترابها وحجرها وشجرها وكل ما ينبض فيها.
إننا أمام كل هذه التطورات نتساءل عن السبب الذي لا يزال يمنع القمم العربية من سحب المبادرة العربية، وخصوصا أن العدو رفضها منذ البداية، وأن أميركا وضعتها في الثلاجة السياسية، وقالت إنها تصلح للتفاوض وليس للتنفيذ.
ونحن في الوقت الذي نرحب بالمصالحة العربية، نخشى من أن هذه المصالحة سوف تبقى على السطح، وخصوصا أن فريق العمل الذي يتحرك فيه المساعدون في كثير من المواقع العربية الرسمية يختزن ذهنية التعقيد، ومزاجية الرفض التي قد تدفعه إلى الانفتاح على «إسرائيل»، وتمنعه من الانفتاح على الأخ والشقيق.
لبنان: لمحاصرة أسباب الفوضى وتطويقها
أما في لبنان، فإن المطلوب من اللبنانيين الذين يتحركون في المواقف السياسية كنتيجة للانقسامات الحزبية، أن يعوا التطورات والأخطار الإقليمية والدولية التي تحيط بالمنطقة، وأثرها في الفوضى التي قد تسود الواقع اللبناني كنتيجة للأوضاع التي تتحرك في الساحتين الإقليمية والمحلية، ما قد يؤدي إلى تفاقم هذه الفوضى.
إننا ندعو اللبنانيين إلى عدم إعطاء أية فرصة لكل الطامحين للعبث بالأوضاع الداخلية من جديد، خصوصا في ظل الحديث عن أنه ستكون لكارثة غزة امتداداتها السياسية في الواقع العربي، ولاسيّما أن المصالحات العربية انطلقت من السطح ولم تنـزل إلى العمق، كما يتحدث العارفون بخفايا الأمور، الأمر الذي قد يؤدي إلى اختلاط الحابل بالنابل من جديد، لأننا تعوَّدنا أن تظلّ الأوضاع العربية رهينة للنكسات السياسية المتتالية على مستوى العلاقات العربية - العربية التي لا تخرج من نفق حتى تدخل في أنفاق ومتاهات جديدة.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 2338 - الخميس 29 يناير 2009م الموافق 02 صفر 1430هـ