لماذا ومنذ قرابة خمسة قرون لم تخرج فكرة علمية أو إنسانية في بلداننا تؤثر على ما يحدث في العالم؟ وهل خلقنا الله بصورة مختلفة عما قبل عندما كنا نتصدر الأمم؟ أم أن الأمم الأخرى يمتلك الواحد فيها «مخّا» أكبر حجما، وإدراكا بشريا أكبر مما لدينا؟!
لقد أطفئت أنوار العلم في عالمنا الاسلامي قبل حوالي خمسة قرون بينما بدأت الأنوار تضاء في أمم أخرى. كل ذلك بعد أن غلبت السياسة الاستبدادية مجالات الحياة الأخرى، وانكفأ أهل العلم والخبرة على أنفسهم وبدأوا يختفون الواحد بعد الآخر.
ولو رجعنا إلى الفترة التي شهدت النقلة النوعية في حضارة الغرب (في منتصف ونهاية القرن السابع عشر الميلادي) فإننا نلحظ بروز أهم الشخصيات، مثل: ديكارت وبيكون ونيوتن وغيرهم الذين أعلنوا انتهاء سيطرة الفلسفة الإغريقية القديمة التي غرقت في الجوانب المنطقية - الذهنية، وأعلنوا بداية الفلسفة التجريبية - الاستقرائية.
في تلك الفترة بالذات (فترة اسحق نيوتن) كان العالم الإسلامي يعيش آخر أيام تقدّمه وكان يعيش في هذه الفترة آخر فلاسفة الإسلام الكبار وهو الملا صدرا الشيرازي. الملا صدرا حاول أيضا الخروج على الفلسفة الإغريقية بتطوير الفلسفة العرفانية (فلسفة الارتباط القلبي بمعاني العظمة الإلهية) وربما كان هذا التوجه في حد ذاته أفضل تعبير عن حال الأمة الإسلامية من أي شيء آخر. بعد ذلك اختفى فلاسفة الإسلام وبدأ فلاسفة الغرب يتكاثرون وتتكاثر افكارهم واكتشافاتهم وتبدلت المفاهيم التي ورثتها الإنسانية منذ مئات، بل آلاف السنين.
قبل فترة النهوض الأوروبي كانت أوروبا ولعدة قرون تحارب العلم والعلماء، بل إن البابا أصدر فتوى يحرم فيها قراءة كتب الفيلسوف المسلم الوليد ابن رشد (عاش بين 1126 و 1189م) لأنها «تفسد عقول الناس وتبعدهم عن المفاهيم الكنسية المقدسة». وكانت تلك الفتوى محاولة لوقف تأثير الفلسفة الاسلامية المستنيرة على الغرب، وخصوصا بعد ان نشأت مدرسة اوروبية تصدرها توماس اكويناس (عاش بين 1225 و 1274م) تتبنى افكار ابن رشد. في تلك الفترة كان العجز الحضاري من نصيب أوروبا التي مازالت تعيش في العصور الوسطى المظلمة (وهي العصور الوسطى الممتدة من حوالي 500 الى 1500م).
نعود لنقارن ذلك بحالنا اليوم ونرى أن من لديه علما وفكرا وعقلا وخبرة فإن حياته مأسوية، فلا احترام لعلم أو إبداع، ولا استثمار حقيقيا لتطوير مخزون المعرفة الذي لا يمكن تخزينه إلا في عقول الناس. ولكي يستطيع الناس الحصول على العلم المتطور وتخزينه ثم تطبيقه في حياتهم اليومية فإنهم بحاجة إلى من يقدّر العلم ويعرف قيمته.
في بلداننا الإسلامية يُحْتَرَمُ المتزلفون والمتملقون الذين يمتصون خيرات الأمة كما يمتص الاسفنج الماء، مع فارق أن الاسفنج يمكن عصره لاستخلاص الماء منه، أما البشر الذين يمتصون الخيرات فإنهم يمتصون معها دماء الآخرين ويقضون على طموح كل من يحبُّ الخير ويتعب في خدمة أمته.
يتصفح المرء موسوعات العلم المتطور باحثا عن أسماء قادمة من بلادنا فينهكه التعب ولا يجد إلا عددا محدودا، ثم يكتشف أن معظمها هجر موطنه وذهب إلى وطن آخر يقدّر علمه وخبرته ويفسح له المجال لتطوير قدراته.
العجز الحضاري يبقى لأننا بعيدون عن المفهوم الأسمى للحياة الإنسانية المتمثل في تقييم الإنسان على أساس عطائه للإنسانية وليس على أساس تملقه وتزلفه، وهذا هو فحوى الحديث النبوي «الخلق عيال الله، وأحبكم لله أنفعكم لعياله»
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 454 - الأربعاء 03 ديسمبر 2003م الموافق 08 شوال 1424هـ