العدد 2338 - الخميس 29 يناير 2009م الموافق 02 صفر 1430هـ

دور الترجمة والنقل في إطلاق النهضة الأوروبية

الفكر العربي - الإسلامي في صناعة الفلسفة المعاصرة (1)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

إلى أي مدى ساهمت الحضارة الإسلامية - العربية في بعث النهضة الأوروبية وخصوصا في مجالات الفلسفة والعلوم؟ سؤال لايزال مدار نقاش وتتراوح الإجابات بين متجاهل يعتمد نهج الإقصاء الكامل، وقائل بتأثير محدود وبسيط، ومعترف بوجود صلة بين نهضة أوروبا والعامل الإسلامي المتعدد الوجوه وتحديدا في إطار حضارات البحر المتوسط.

تناول هذه المسألة بالشرح والتوضيح الكثير من المشاركين في «ندوة تونس» عن ابن رشد التي عقدت في العام 1998. وقرأ كل باحث المسألة من زاوية مختلفة.

المدير السابق لمعهد الدراسات والبحوث الاجتماعية في طهران إحسان نراقي تعرض إلى حركة الترجمة وانتقال المعارف الإنسانية من مدينة إلى أخرى ودور الحضارة الإسلامية في حفظ التراث وحمايته من التلاشي والتجاهل. وتعرض الأستاذ في كلية التربية في جامعة الموصل عبدالواحد ذنون طه للمسألة من ناحية مواقف الجامعات الأوروبية من فلسفة ابن رشد في العصور الوسطى ونشوء تيارات متعارضة في قراءة كتابات فيلسوف الأندلس. وركز الأستاذ الجامعي التونسي علي الشنوفي بحثه على مدى صدى نظريات ابن رشد في أوروبا الغربية في العصور الوسطى وتأثيرها في نخبة من المثقفين لفترة زمنية طويلة. بينما اقتصر بحث أستاذ الفلسفة ماجد فخري على تناول مسألة قدم العالم واختلاف توما الاكويني عن ابن رشد في تناولها.

حاول إحسان نراقي في بحثه عن «السند الإسلامي للانبعاث الغربي» أن يجيب عن سؤال: لماذا يتجاهل الأوروبيون دور الحضارة الإسلامية في تكوين الوعي الأوروبي المعاصر عبر المساهمة في حماية التراث الفكري الإنساني وحفظه من خلال الترجمة؟ وللإجابة قام بقراءة تاريخية لانتقال المعارف الإنسانية من خلال الترجمة وصلة حلقات الحضارات وتواصلها وتأثيرها المتبادل منذ مئات القرون.

يبدأ نراقي دراسته التاريخية من مكتبة دمشق التي أسسها الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان وضمت مصنفات الأحاديث والكتب، ثم تطورت المكتبة بإشراف حفيده خالد بن يزيد «الذي كرس حياته لدراسة علوم الإغريق وأمر بترجمة مؤلفات الكيمياء والطب». وتطور الاهتمام في العهد العباسي بالمكتبات وتنوعت مصادر الترجمة فلم تعد تقتصر على السريانية بل شملت اليونانية والفارسية والهندية، ولعب الإسلام دوره في «ضمان الوحدة الثقافية للبلدان الإسلامية». وتحولت العربية إلى «لغة جميع الشعوب من بغداد إلى قرطبة». ويشرح نراقي تطور مفهوم الترجمة وتصنيف الكتب وإنشاء المكتبات فيذكر «خزانة الحكمة» في عهد هارون الرشيد ثم «بيت الحكمة» في عهد المأمون وتشجيع الدولة وإشرافها على حركة الترجمة وبروز دور الطبيب جبرائيل بن بختشوع، وحنين بن اسحق، وابنه اسحق بن حنين.

في فضاء الترجمات برز أبويوسف الكندي (تولى مهمة تربية الخليفة المعتصم) الذي درس علم البصريات وانتشار الضوء وأنجز أعمالا في الجغرافيا والجيولوجيا والأرصاد الجوية وعلم الفلك وفن التنجيم. وكان لتعاليمه «أثر كبير في أوروبا الغربية في العصر الوسيط». ويأتي نراقي على دور الرياضي محمد بن موسى الخوارزمي في عهد المأمون، وعلي بن سهل الطبري الذي خدم في بلاط بغداد في عهد كثير من الخلفاء وأنجز كتابه «فردوس الحكمة»، ومحمد بن جابر الذي اشتهر بكتابه عن الازياج الفلكية وتحول إلى مرجع في أوروبا الغربية بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر الميلاديين.

ينتقل نراقي إلى مصر وتطور المكتبات هناك من العهدين الأموي والعباسي وصولا إلى قيام حكم المقاطعات كالفترة الطولونية ثم الإخشيدية ثم الفاطمية وتأسيس الحاكم بأمر الله الفاطمي «دار الحكمة» في القاهرة، ثم الفترة الأيوبية حين ازدهرت مستشفيات الطب والمؤسسات التعليمية. وخلال فترة تعاقب حكم العائلات برز في العراق والشام وفارس ومصر عشرات الأعلام في الطب والفلسفة والهندسة والفلك أمثال ابن الهيثم، ونصير الدين الطوسي، وابن يونس، وعلي بن عباس المجوسي، والفارابي، والرازي (أبوبكر بن زكريا)، وابن سينا، والبيروني، وعمر الخيام، وجلال الدين الرومي، وابن النفيس الذي اكتشف الدورة الدموية الصغرى. واستمر الاهتمام بإقامة المدارس والمستشفيات ومراكز الرصد الفلكية في عهد المماليك في مصر وبلاد الشام، كذلك في عهد المغول بعد تحولهم إلى الإسلام إذ برزت في فترتهم مكتبات ضخمة في تبريز وسمرقند وطشقند.

المغرب والأندلس

ينتقل نراقي إلى المغرب والأندلس والحكم العربي في صقلية واختلاف الحكومات الإسلامية وتعدد الأسر الحاكمة وبروز الطبيب ابن الجزار صاحب «زاد المسافر» وهو الكتاب «الذي أدخل في الأندلس ونقل إلى اليونانية واللاتينية والعبرية». وتأسيس أمير الموحدين المنصور مستشفى مراكش وتشجيعه الطب والفلسفة إذ عاش في بلاطه ابن طفيل وابن رشد وابن زهر الحفيد. ويرى نراقي أن الأندلس كانت «رأس جسر نحو العالم المسيحي»، كذلك لعبت صقلية التي استولى عليها ملوك النورمان دورها «في نقل علوم الشرق إلى الغرب». ويؤرخ لفترات الحكم العربي الإسلامي ابتداء من تأسيس الإمارة الأموية في قرطبة واهتمام عبدالرحمن الثاني بالترجمات وتأسيس المدارس والمكتبات، وتطورت في عهد عبدالرحمن الثالث. واحتوت مكتبة قرطبة على أكثر من 400 ألف كتاب تم نهبها وحرقها في فترات متقطعة خلال سقوط الأندلس.

قبل سقوط الحكم الإسلامي العربي في الأندلس توالى على حكمها المرابطون ثم جاءت دولة الموحدين التي عرفت كيف ترعى وتحضن الفكر والثقافة ومنها انتشر الطب والعلم والفلسفة إلى أوروبا الغربية، إذ كان لنظريات ابن رشد «الأثر البالغ في الفكر الغربي في القرون الوسطى». ولم يقتصر تأثير الفلسفة الإسلامية على ابن رشد بل وصل «الجزء الكبير من الميراث العلمي إلى أوروبا عن طريق ايطاليا (صقلية) واسبانيا» من خلال الترجمة والنقل من العربية إلى العبرية واللاتينية. ويشير نراقي إلى دور قسطنطين الافريقي «المولود في قرطاج بتونس» في ترجمة كتب الطب والفلسفة بسبب إجادته اللغات العربية والعبرية والسريانية والكلدانية واليونانية والأثيوبية والهندية. واهتم قسطنطين بإعادة ترجمة ما توافر من كتب حنين بن اسحق، وعلي بن عباس المجوسي، واسحق الإسرائيلي، وابن الجزار. وبعده جاء الإدريسي الذي ولد في سبته في المغرب ودرس في قرطبة وعاش في صقلية في عهد الملك النورماندي روجر الثاني. وتطورت الترجمة والنقل عن العربية في عهد فريدرك الثاني الذي كان يلم بتسع لغات منها العربية واستعان بالمترجم يعقوب اناطولي لنقل مؤلفات بطليموس وابن رشد. كذلك اعتمد على المترجم الاسكوتلندي مايكل سكوت الذي درس في اسبانيا ونقل الكثير من المؤلفات العربية من مكتبة طليطلة (توليدو). وقام ليوناردو فيبوناشي، وكان والده مكلفا بالشئون القنصلية في الجزائر، بترجمة الكثير من المؤلفات عن العربية، خصوصا تلك المتعلقة بالرياضيات والتقنيات التجارية.

إلى هؤلاء هناك سلسلة من الحلقات تم خلالها نقل وترجمة العلوم والفلسفة الإسلامية من العربية إلى اللاتينية خصوصا بعد سقوط طليطلة، برز منها جيرار دي كريمون الذي انتقل إلى طليطلة وتعلم العربية وأصبح راعي الكاتدرائية، وقام بنقل كتب الفلسفة والرياضيات والعلوم والطب واهتم بترجمة أرسطو وجالينوس واقليديوس من العربية، كما ترجم رسائل الكندي والخوارزمي والفارابي والرازي وابن سينا إلى اللاتينية. وأحدثت الترجمات حركة فكرية شاملة أثارت نشاط الرهبانيات الفرنسية خصوصا الدومينيكان (الاخوة الواعظون) فاشتهر من بينهم البرت الكبير وهو استاذ توما الاكويني. كذلك برز ابيلار الباثي كأحد كبار النقلة وتولى تربية ملك انجلترا هنري الثاني، والفرد دي ساريشال الذي نقل علم الحيوان. وبرز أيضا ريمون لول الذي أتقن العربية واقنع البابا بضرورة إنشاء مدارس باللغات العربية والآرامية والعبرية في روما وبولونيا وباريس واوكسفورد وسلامنقا، وتصنيف المؤلفات بغرض تنصير المسلمين.

يرى نراقي أن هناك ظلما لحق بالمسلمين والعرب حين نهضت أوروبا وتنكرت لدور الحضارة الإسلامية في حفظ وحماية وتطوير التراث الإنساني. ويلوم التيار الاقصائي الأوروبي الذي يحصر التطور المعاصر في حدود ثلاث مدن هي أثينا وروما والقسطنطينية ويطمس دور المدن الإسلامية والعربية وتأثيرها في عناصر التحول الأوروبي الحديث. ويطالب في النهاية بإعادة ابراز دور المدن الأندلسية كطليطلة واشبيلية وقرطبة وغرناطة إضافة إلى بالرمو (صقلية) في لعب دور خاص ومميز في نقل المعارف الإنسانية العقلية والعلمية والرياضية والطبية والهندسية من الشرق إلى الغرب.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2338 - الخميس 29 يناير 2009م الموافق 02 صفر 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 6:14 ص

      الامير

      الفضل يرجع الى العرب المسلمين طبعا

    • زائر 2 | 1:24 م

      مغرب

      رائع فسلام على الاروبيين اساتدتنا الدي كنا في الزمن الغابر اساتدتهم

    • زائر 1 | 8:15 ص

      دور الاندلس في النهضة الاروبية

      انه موضوع جيد ولكن لم يفرق الول عن بعض مثل الشام ومصر وصقليه والاندلس

اقرأ ايضاً