يهمس بعض المثقفين العراقيين «سرا» نقلا عن الإدارة الاميركية. السر يقول ان واشنطن وعدت المعارضة العراقية بأنها ستحول بلادهم إلى المانيا الشرق أو يابان الغرب في حال غطت حربهم على الدكتاتور صدام حسين ونجحت في اسقاطه.
الآن، لم يعد الوعد سرا. فالكلام رددته الكثير من الاوساط التي اشارت إلى خيبة أمل الادارة من مهمتها في افغانستان فنقلت رهانها إلى العراق. فالعراق هو النموذج الأميركي الجديد بدلا من افغانستان التي تتحكم فيها القبلية وعلاقات التخلف الاجتماعي.
ووقعت الحرب ودخلت المعارضة العراقية مع الدبابات الاميركية وسط بغداد. والسؤال بعد عشرة أشهر على تلك المعركة، كيف يمكن تحويل بلد تعرض لسلسلة حروب متواصلة (منذ 1980) وحصار متواصل (منذ 1990) واستبداد متواصل (منذ 1968) واخيرا احتلال مدمر للبشر والحجر إلى نموذج خاص ومتميز في دائرة «الشرق الأوسط»؟ كيف يمكن تحويل اشلاء دولة مقسمة على اجزاء مبعثرة في الشمال والوسط والجنوب إلى جسم موحد يتمتع بالنشاط والحيوية في وقت يحاصر فيه الشعب من الخارج والداخل ويمنع عليه التواصل والاتصال بين محافظاته ومدنه؟
الجواب عن السؤال ليس صعبا ويمكن اختزاله بكلمة أو أكثر: الوعد مجرد خدعة.
الولايات المتحدة على مثال الاستعمار القديم تقدم الوعود ثم تتخلى عنها حين تحقق اغراضها وأهدافها. بعد ذلك تعلن فشلها وتخليها عن مهمتها تهربا من دفع الثمن وكلفة إعادة الإعمار.
في الحروب نجد واشنطن أكثر العواصم استعدادا لصرف المال وانفاق الموازنات العسكرية. وحين تتوقف عجلة القتال والقتل يبدأ الكلام عن ضرورة حث الدول والضغط عليها لاعتماد موازنات لإعادة بناء ما دمرته حربها. هكذا حصل في افغانستان، ويتكرر الأمر في العراق.
مع ذلك تستمر واشنطن في نشر خدعتها وهي انها تريد تحويل العراق بعد الحرب إلى دولة تشبه المانيا أو اليابان بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ودخول العالم فترة استقطاب عرفت بـ «الحرب الباردة».
حتى الآن لم تجب الولايات المتحدة عن سؤال: كيف؟ كيف يمكن تحقيق هذا الهدف النبيل ولمصلحة من؟ فكل الدلائل تشير إلى العكس حتى لو كانت واشنطن جادة في غايتها. فالنماذج لا تخترع من لا شيء وإنما تؤسس على وقائع جغرافية وتاريخية وتستند إلى مجموعة علاقات تستطيع احتضان التطور وتقبله ودفعه إلى الامام.
هذه العناصر الجغرافية والتاريخية والاجتماعية غير متوافرة حتى الآن في العراق. فكيف يمكن تحويله إلى نموذج يشبه اليابان في الشرق أو المانيا في الغرب والعراق لايزال يعيش فترة انقسام تتحكم فيه سلسلة لا تحصى من المشكلات الأهلية الطائفية والمذهبية والعشائرية والمناطقية.
المانيا حين خسرت الحرب العالمية كانت دولة عظمى في مقاييس ذاك الزمان. فهي كانت دولة صناعية من الطراز الأول وبدأت بتأسيس دولتها القومية في العام 1870 حين نجح بسمارك في توحيد ممالكها وتركيب دولة قومية حديثة تعتمد على التصنيع الثقيل والتقنيات المتطورة عسكريا ومدنيا.
اليابان كذلك كانت دولة صناعية كبرى حين خسرت الحرب العالمية وخضعت للاحتلال الاميركي في شرق آسيا. فاليابان باشرت بتأسيس نهضتها في نهاية القرن التاسع عشر من دون ان تتخلى عن تقاليدها أو تكسر انظمتها المتوارثة. ونجحت اليابان في تكييف ثقافتها مع التقدم التقني وكذلك في اعادة انتاج الصناعة المتطورة وفق بيئتها وتقاليدها وتاريخها.
اليابان لم تكن دولة عادية حين هزمت. بل كانت الدولة الأولى في آسيا (الشرق كله) وهذا ما اتاح لها ان تفكر في الخروج من عزلتها (جزرها) والاستيلاء على اجزاء من كوريا وخوض حرب مع الصين (الكبرى) وهزيمتها والاستيلاء على مقاطعة منشوريا. وكذلك نجحت اليابان (الصغيرة نسبيا) في هزيمة روسيا القيصرية في حرب مدمرة وقعت في العام 1904 - 1905.
اليابان كانت دولة صناعية كبرى في الحربين العالميتين الأولى والثانية وكانت الدولة الأولى في آسيا. كذلك المانيا كانت الدولة الأولى في اوروبا في الحربين الأولى والثانية.
اميركا لم تبدأ من الصفر. ولا فضل لواشنطن على طوكيو وبرلين. كل ما فعلته الولايات المتحدة هو تغيير دساتيرهما وتركيز قواتها في قواعد للمراقبة وتمويل كلفة الإعمار وتحويل الصناعتين الالمانية واليابانية من العسكرية إلى المدنية.
كل شيء كان جاهزا في البلدين بينما الأمر ليس كذلك في العراق. وحين لا تتوافر كل قواعد الانطلاق من جغرافيا وتاريخ واجتماع فكيف يمكن تصديق ذاك «السر» الذي تهمس به المعارضة (مجلس الحكم الآن) علنا. انه مجرد خدعة. وهذا هو سر الخدعة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 453 - الثلثاء 02 ديسمبر 2003م الموافق 07 شوال 1424هـ