العدد 452 - الإثنين 01 ديسمبر 2003م الموافق 06 شوال 1424هـ

شعراء العراق يحتفلون بسقوط طاغية

أعمار الطغاة قصار!

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

في قاعة كبيرة تمتد على عرض سرداب ضخم تحت فندق كبير هو أبراج الإمارات في دبي، وفي الليلة الثالثة بعد عيد رمضان الأسبوع الماضي اجتمع ما يقرب من ألف عراقي مع عائلاتهم ليقيموا مع نفر قليل من أبناء دبي وضيوفهم ليلة عراقية ثقافية بامتياز، كأنهم يريدون بدء إعمار العراق بالإعمار الثقافي، الذي هو أهم من أي إعمار.

كان ضيوف تلك الليلة ثلاثة من أهل الثقافة العراقية، شاعر ومؤدٍ للغناء البدوي والريفي العراقي، عازف متميز على العود، الثلاثة هم على التوالي: مظفر النواب، شاعر طريد تنقل بعنفوان الرجل فيه غير القابل للخضوع في بقاع كثيرة من عالمه العربي الذي عز عليه ألا يلقى بقعة فيه قادرة على تحمل سخريته الشعرية من زمانه، والمؤدي للغناء الشعبي البدوي الذي يحمل درجة الدكتوراه في الشعر العربي سعدي الحديثي الذي لم أسمع أحلى من صوته الجميل عندما أدى مجموعة من الأغاني بدت مألوفة لكل من كان في القاعة، أما موسيقى علي حسن - وهو ثالث الثلاثة - التي ترنمت بنغمات العود وصاحبت الاثنين في أدائهما الثنائي، فكانت تحمل كل ذلك الشجن الجميل للفرات... مع هؤلاء الثلاثة بدت مسيرة الإعمار الثقافي منطلقة من تلك القاعة.

لم أكن من قبل أعرف شخصيا مظفر النواب عن قرب، طبعا أعرف منذ نيف وثلاثين عاما تلك القصائد الضجرة بواقع عربي يخضع لتطورات قاسية، وكانت توزع في كراسات، حتى بدت لجيلنا وكأنها تعبّر عن الضياع والهم المقيم، ينقد فيها ذلك الشاعر المتمرد بمرارة كل من يقع عليه نظره أو سمعه من أهل الحكم العرب، ولعل قصيدته المشهورة «القدس عرس عروبتكم» التي أصبحت في وقت ما، أنجيلا لجيل كامل من العرب الغاضبين هي التي كان يعيدها في جلساته جيل عربي لم يرَ للخروج من المأزق الحضاري غير ترديد تلك الأبيات الشعرية الخُرس.

في ليلة الثقافة العراقية في دبي، وعندما بدأ الشاعر ينتشي بإلقاء قصائده، تحول إلى مطلع أبيات تلك القصيدة، إلا أن المنظمين أدركوه، فعدل عن إلقائها... لا أعرف إن كان غاب في اللحظة عن المكان والزمان، وانتشى بسماع التصفيق المتواصل من الجالية العراقية في الإمارات إلى درجة أنه عاد من جديد إلى تمرد الشباب، أم تراه قرر أن يبدأ القصيدة تلك كي يختبر مدى درجة التسامح لدى المستمعين في تلك القاعة المكتظة بعراقيين تأخروا طويلا عن تنظيم أنفسهم، كما فعلوا تلك الليلة.

رأيت ذلك الشاعر المتمرد شخصيا أول مرة، وبدا لي أنه يخطو حثيثا في وسط عقده السابع، لامع الصلع إلا من خصلة بيضاء أحاطت بجمجمته، وكوفية من الصوف وبنطال رمادي، أما صوته فكان جهوريا يرتفع بأبيات الشعر بحماس العشرين، يجاوبه الحديثي في ثنائية رائعة.

إذن، هذا هو مظفر النواب، الذي لم يؤجر فنه إلى الطاغية، وقائل البيت المشهور «باقٍ وأعمار الطغاة قصير»، ترى هل كان يتنبأ هذا الشاعر، بسيط الملابس، منظم الأفكار، بأنه باقٍ بعد كل هذه المنافي والمطاردة؟ وبأن الطاغية سيتوارى ومن معه في كهوف النسيان، مطاردا في البرية؟ أم تراه عندما نظم القصيدة كان يتمنى ما كان يتمناه كل عراقي تقريبا بزوال الطغيان؟ أم تراه يؤكد فقط مسار التاريخ الإنساني، أن حكم الظلم قصير؟!

مجلس العمل العراقي هو الذي نظم تلك الأمسية، وكان فيها تلك الليلة كل ألوان الطيف العراقي، وكل سيدة أو رجل أو أسرة لهم مع النظام السابق قصة ما قريبة أو بعيدة، ولم يكن بالإمكان أن ينتظم العراقيون في أي تجمع، ونظام طغيان قابع لهم في منافيهم بعسسه وعيونه، يرصد عليهم أنفاسهم التي تتردد في صدورهم، ولم تكن غالبيتهم قادرة حتى على إشهار وجهة نظرها الحقيقية، كما قال الصحافي البريطاني جون سمسون، في كتابه الأخير «الحرب ضد صدام»: إن «صدام هو الوحيد الذي لا يعرف أن الكل من حوله ضده».

بعد سقوط التمثال في بغداد استطاع العراقيون أن ينظموا أنفسهم في أماكن كثيرة من العالم، أما في دبي فقد التأموا في «مجلس العمل العراقي» وهو صيغة تسمح بها قوانين دولة الإمارات، وترعى هذه المجالس غرفة تجارة وصناعة دبي، وهناك مجالس لعدد من الجاليات العاملة في دبي، إلا أن أول نشاط لهذا المجلس العراقي هو ذلك الحفل الكبير الذي لم يكن بلا قصد إنساني نبيل، فقد نُظم الحفل من أجل إعادة بناء مقر «أيتام الرحمة» وهو المكان الذي شُرِّد منه عشرات من أيتام العراق، وكانت الوسيلة هي الثقافة.

المفاجأة الجميلة أنه بعد أن أوغل الليل في المسير مع قصائد مظفر النواب، وذلك الصوت الشجي لسعدي الحديثي، جاءت الأخبار التي أعلنت لمن كان في ذلك المكان أن الشيخ محمد بن راشد تبرع بأن يعيد بناء مقر «أيتام الرحمة» على حسابه!... كانت لفتة، حررت المبالغ المحصلة من الأمسية كي تذهب إلى أعمال إنسانية أخرى.

قراءتي لحنين العراقيين إلى بلادهم لا يوازيها حنين، وعودة أهل المنافي إلى إنسانيتهم لا تفوقها أية مشاعر ولا تحجبها أية مظلة، تجد منهم الضابط السابق الذي قرر أن يهجر بلده اتقاء لفتنة أهله وتشريدهم، وبينهم الطيار الذي وصل إلى ميناء مطار دولي فهجر طائرته من دون أن يعرف إلى أين ستحمله الأمواج بعد ذلك في ليل الغربة، وبينهم الفتاة التي مزّق الطغيان أواصر روابطها الأسرية، فلاذت بأقرباء بعيدين ترجو اللقمة الشريفة، وبينهم الطالب الذي وجد نفسه أمام مستحيلين إما العودة إلى مواجهة أعواد المشانق، وإما الضياع في غياهب الهجرة المُرة، فاختار أحلى المُرين.

ضجت القاعة بالتصفيق عندما قال مظفر: «ليس المهم أن نجوع غير أن حكامنا لا يشبعون». وهو مقطع من قصيدة أعتقد أنها ستظل على مرِّ الزمن عمود إكبار لهذا الشاعر المتدفق.

مكنة الطاغية لم تترك الشاعر يستقر، فلاحقته من مكان إلى مكان آخر في هجرته القسرية، ثم لاحقته بما هو أقدح، بما يعرف اليوم بوسائل قتل الشخصية، فأشيع بين العوام أن مظفر النواب، هو من بقايا المهاجرين من بلاد الهند في العراق، وأنه مجرد شخص من تلك الجماعة القاطنة للأهوار التي ضاعت أصولها! فهو لا منتمٍ ومن المشكوك في عراقيتهم... كُتب ونُشر ذلك في صحف النظام، وأشيع على نطاق واسع، طبعا هو غير الحقيقة، فمظفر يعود إلى عائلة مناضلة عراقية، ولكن الأهم أنه شاعر عبّر عن شعور ملايين ليس من العراقيين فقط ولكن العرب، وبني الإنسان أيضا. أكثر إيلاما أن تلك الشائعات تدل على انتفاء للشعور الإنساني والحضاري، فأبناء آدم واحد، وأبناء الوطن من المفروض أن يكونوا عزيزين عليه ومتساوين، مهما اختلفت ألوانهم أو انتماءاتهم واجتهاداتهم.

ظاهرة التجمع العراقي ذلك تعطينا انطباعا بأن الشعوب عندما ترفع عنها لعنة القمع الذي تمنى النواب ضاحكا أن «يسقط القمع بداء القلب»، وهي مقابلة لها معناها، عندما يُرفع عن الشعوب مرض القمع تفيق إلى انتمائها الوطني، تنظم نفسها في إطار من التعاون المدني الحديث الذي يستهدف مصلحة المجموع، فالحياة في العراق فقدت نكهتها الإنسانية عندما أحيل بين الثقافة وبين دورها الحقيقي، واستبيحت لترويج الطغيان الذي هو عدو الحياة وخصوصا عدو الثقافة.

تلك ليلة لن أنساها، ليس لأني استمتعت بفن رفيع من الأغاني الشعبية والقصائد المعبّرة والموسيقى الشجية، بل لأني زدت تفاؤلا بقدوم عراق جديد، عراق فيه الفن يقود ولا يؤمر، يرعى ولا يزجر، يقرب ولا يفرق، فن لا يحصر بين صخرتين، صخرة القمع وصخرة التهريج للأصنام.

ودّعني أحد منظمي الحفل مع صديقي التاجر من الإمارات الذي دعاني إلى ذلك الحفل، حتى باب ذلك الفندق الفخم، وسألني: ترى هل سيظهر عراق جديد؟ قلت باسما: إن استطعتم أن تقيموا حكما بلا تقية، وبلا عسس، وتعيدوا أولا إعمار الثقافة في العراق، ستكونون محط حسد أبناء عمومتكم، الذين لايزال كثيرون منهم يتسربلون بفقر فادح هو فقر الحريات

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 452 - الإثنين 01 ديسمبر 2003م الموافق 06 شوال 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً