عادت خريطة العراق تظهر مجددا على خلفية المشهد الانتخابي في الداخل الأميركي. فبعد ان كانت المعركة تتركز شعاراتها على العدو الخارجي (مكافحة الارهاب، واسقاط الأنظمة عن طريق القوة) انتقلت الحرب إلى لعبة انتخابية تتنافس فيها القوى بين مؤيد لاستمرارها ومعارض لها.
الرئيس الأميركي جورج بوش أكد مرارا ان قواته لن تبقى إلى الأبد ولكنه أشار ايضا إلى انه لن يتراجع أو ينسحب من المواجهة قبل ان تنتهي المهمة. وتوقيت انتهاء المهمة ليس واضحا حتى الآن، فأحيانا يقول انها قصيرة وأحيانا طويلة وذلك بحسب الأخبار الواردة من بلاد الرافدين. فاذا كانت عمليات المقاومة قوية ارتفع الصوت المنادي بالتراجع، وحين تقل العمليات وتخف وطأة المواجهة ترتفع المعنويات وتعود نغمة «الحرب الدائمة» و«الضربات الاستباقية».
مسألة الانسحاب المبكر غير محسومة حتى الآن ولو ظهرت أحيانا بوادر ليونة في الخطب العسكرية. فالولايات المتحدة لم تشعر بقوة المقاومة والشارع الأميركي لم تهتز ثقته بالقيادة على رغم الاخطاء التي ارتكبتها إدارة البيت الأبيض في تسيير شئون البلاد. فالجمهور الأميركي يحتاج إلى وقت ليدرك عمق الهوة التي رمته في داخلها إدارة تتحكم فيها سلطة المال والقوة والهوس بالحروب والمعارك.
في فيتنام مثلا استمر تورط الإدارة الأميركية في مستنقعاتها قرابة عشر سنوات استهلكت واشنطن خلالها 220 مليار دولار نفقات عسكرية وسقط أكثر من 58 ألفا من الجنود دفاعا عن مصالح التصنيع الحربي.
في العراق لم يمض على الحرب أكثر من عشرة أشهر ومع ذلك يمكن القول ان كلفة الحرب قياسا على السنة الأولى ستكون عشرة أضعاف كلفة حرب فيتنام. فحتى الآن انفقت الولايات المتحدة 80 مليارا على الحرب وتخطط لانفاق قرابة الموازنة نفسها في العام المقبل. ويرجح اذا استمرت القوات الأميركية ثلاث سنوات فقط فإن كلفة السنوات الثلاث ستكون أكثر من 220 مليارا.
يبدو ان النفقات (المالية) ليست مشكلة بالنسبة إلى ادارة خططت ان تكون رهينة هيئات التصنيع العسكري وهيمنة كتلة الشر في «البنتاغون». المشكلة الأساسية هي القتلى وعدد الجرحى الذين يسقطون يوميا.
وحتى الآن كما تبدو الأمور في حسابات كتلة الشر ان الرقم (ثلاثة جنود يوميا) يمكن تحمله الى فترة طويلة من دون ان يكون له انعكاساته السلبية على الرأي العام والناخب الأميركي. في فيتنام احتاج الأمر إلى حوالي السنوات العشر وكان يسقط يوميا بين 15 و16 قتيلا بينما في العراق - وبحسب نظرية كتلة الشر - فان الرقم يمكن استيعابه وتغطيته بنظريات أخلاقية من نوع «نشر الديمقراطية» و«الدفاع عن حقوق الانسان» وغيرها من مسميات تذر الرماد في العيون. الاحساس بالخطر اذا لم يتطور بعد والإدارة الأميركية قادرة كما يبدو حتى الآن على تحمل الكلفة المالية والخسائر البشرية إلى فترة لا تقل عن السنة وربما أكثر في حال نجحت عملياتها الانتقامية (العقاب الجماعي) في الحد من نمو المقاومة كما حصل أخيرا حين بدأت سياسة القتل العشوائي باسم «مطرقة الحديد».
الخلاصة العامة تشير إلى ضرورة إعادة قراءة الاستراتيجية الأميركية ومخاطرها وهي تعني في خطوطها الكبرى وتفصيلاتها الكثيرة وجود نوع من الثبات في السياسة الهجومية وهي لم تثمر حاليا سلسلة مواقف متعارضة في الجوهر بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي.
وزيارة هيلاري كلينتون إلى أفغانستان وثم العراق لا يظهر منها انها تأتي في سياق الاعتراض على استراتيجية بوش، بل ربما تكون من نوع التنافس مع الخصم الانتخابي على قاعدة البرنامج نفسه. ولعل هذا الأمر يفسر مسارعة بوش إلى الذهاب في زيارة غير معلنة إلى مطار بغداد والعودة منه قبل وصول هيلاري اليه من كابول.
هذا المشهد التنافسي يشير إلى بداية ظهور خريطة العراق على خلفية الصراع الانتخابي الجاري بين الحزبين في معركة رئاسية ستكون قاسية في الخريف المقبل. إلا أن هذا المشهد لا يعني بالضرورة ان واشنطن دخلت في حسابات سياسية جديدة بناء على اخطاء تراكمت في الأشهر الماضية وكشفت عن سلوك فاشل. فالاخطاء المتراكمة لا تشير حتى اللحظة الى بداية تغيير جوهري في الرؤية العامة. فإلادارة لاتزال تعيش لحظات قلق تعبر عن نفسها بتصريحات متعارضة تعكس تكتيكات متخبطة. فمرة تعلن نجاحها ومرات تعلن فشلها، وأحيانا تؤكد بقاء جيوشها وأحيانا تحدد مواقيت زمنية للانسحاب أو تسليم السلطة لإدارة عراقية.
كل يوم يعلن عن سياسة والصحيح انه لا جديد في المساحة الأميركية (الدولية) سوى الغموض والالتباس
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 451 - الأحد 30 نوفمبر 2003م الموافق 05 شوال 1424هـ