تدل محاولات التعبئة الجارية على قدم وساق في فرنسا ضد المسلمين والعرب خلال هذه المرحلة على أن شيئا ما يبيت لهذه الجاليات، وما تحميلها مسئولية احراق المدرسة الدينية اليهودية من دون اثبات، والتشديد باتهام ابنائها بتهديد كل يهودي يرتدي القلنسوة فوق رأسه، اضافة إلى إعادة التذكير العشوائي بحرق اماكن عبادة اليهود في 2000 و2001، الذي ثبت بعدها أنه كان من فعل اليمين المتطرف، ليس الا مقدمة لليل «السكاكين الطويلة» التي بدت تلوح في الأفق على رغم التطمينات.

بالتالي، لم يعد جائزا التقليل من أهمية الشحن النفسي الدائر. كذلك، وضع المجتمع الفرنسي في اجواء محفوفة بالمخاطر، وممارسة الضغوط النفسية عليه، تمهيدا لأخذ موافقته الضمنية على ما يمكن ان يحدث مستقبلا من اضطهاد للجاليات العربية والمسلمة المقيمة. ولا يفهم القيمون على اوضاع هذه الجاليات التركيز اليومي على قضية الحجاب واصرار جزء كبير من النواب، على اختلاف انتماءاتهم الحزبية وحتى الدينية، الطلب من الحكومة استصدار قانون، وبسرعة، يمنع ارتداء الحجاب في المدارس وحتى الجامعات. كذلك، الدور الاستفزازي الذي يضطلع به عدد من رؤساء تحرير بعض الصحف والمجلات، الذي لا يمكن اعتباره مجرد وجهة نظر أو تسجيل موقف، بل هو تحريض على الذهاب ابعد من ذلك من خلال الخلط المتعمد بين الاسلام والارهاب والمهاجرين المغاربة تحديدا.

وإذا كانت القيادة الحكيمة للرئيس جاك شيراك - الذي ثبتت صحة رؤيته - المتمثلة بسلسلة المواقف الجريئة التي اتخذها على جميع الصعد، بدءا بعدم الانجرار وراء الولايات المتحدة في حربها على العراق ومرورا بالتمسك بتنفيذ «خريطة الطريق» ملزما الاتحاد الاوروبي بها، ووقوفه بحزم ضد العنصرية، جنبت فرنسا حتى الآن الدخول في عين العاصفة، فإن بروز هذه المناخات المفتعلة يمكن ان يدخلها في دوامات يصعب معها تفادي الاعظم، وخصوصا ان العالم بات يخضع لتجاذبات حرب مختلفة، حرب بلا سوابق. كل شيء يوحي بأننا لانزال في البدايات، حرب يرى المسئولون الفرنسيون انه لا بد من مواجهتها من دون الوقوع، في الافخاخ المنصوبة التي تحاول الخلط بين الاسلام والارهاب والجاليات المغربية الموجودة فوق اراضيهم، مع الاخذ في الحساب ان اكثر من خمسة ملايين مسلم باتوا يحملون الجنسية الفرنسية، والحبل على الجرار.

حرب بلا ضوابط

جاءت تفجيرات اسطنبول وليس الرياض لتقول ان نظرية العالم الاكثر امنا - الذي وعد به جورج بوش بالامس وتروج له البوتقة الفرنسية التي اشرنا اليها - هو غير العالم الذي نعيش فيه. ويدل الارهاب المتنقل ان الرئيس الاميركي أوقد نيرانا قد تتحول إلى لهيب يصعب اطفاؤه. لذلك، يجب على حكماء فرنسا ان يفهموا هذا الواقع الخطر ويسارعوا لتجنبه عبر تنقية الاجواء وتنفيس الاحتقانات المصطنعة التي يعمل على خلقها البعض من خلال اقحام الاسلام والمسلمين الفرنسيين.

كانت دول كثيرة في العالم، في طليعتها فرنسا، مستعدة للانخراط في مواجهة مع ارهاب اسامة بن لادن أو متفرعاته، لا بل انها فعلت ذلك قبل ان تنعطف الادارة بشكل يهدد التعاون الدولي، والعلاقات الدولية، ومواثيق الأمم المتحدة، وكل ما يصب في مجرى العمليات البوليسية ضد تنظيمات هيولية متطرفة.

باختصار لم يفعل بوش، طوال الشهور الماضية، سوى توجيه الرسائل الخاطئة التي يتلقفها مريدوه في فرنسا ساعين إلى استخدامها كورقة ضغط على الحكم، وعلى الرئيس جاك شيراك بشكل خاص لكن هذه المحاولات لم تثمر. إلا انها بدأت منذ اسابيع وتحديدا بعد انفجاري اسطنبول تؤثر في مزاج جزء من الرأي العام بعد ان ادخلوه في حال تخويفية من الآتي الاعظم، مركزين على ان تركيا كانت تشكل الحاجز الأخير امام اندفاع الارهاب الاسلامي إلى أوروبا، وايضا إليه. لكن على الفرنسيين ان يدركوا قبل غيرهم، ان بلدهم وقارتهم ليستا مسئولتان عن الفوضى التي خلفها التفرد الاميركي عالميا، وبالتالي يتحمل بوش وحليفه بلير مسئولية الاضطراب، وبالتالي تدفيعهما الثمن. على الرأي العام الفرنسي ان يعي قبل الوقوع في الفخ المنصوب له ان واشنطن تريد جمع المستحيل، الماء والنار، في آن معا. تريد من فرنسا وأوروبا ان تكونا في الوقت نفسه، أكثر طاعة لها وأكثر تعاونا وانفتاحا وحتى تبعية دون ان تقترح عليها ما يستر عيب الالتحاق، أو تبريره، ما يجعلها هدفا مستقبليا من دون أدنى شك.

ان فرنسا بغنى عن دخول هذه الحرب التي ليست لها ضوابط فهي ليست بحاجة إلى اختراع اعداء جدد والتضحية بمصالحها في العالم العربي. فليس من الحكمة رمي كل الجهود التي بذلها ويبذلها الرئيس شيراك من اجل استعادة الدور الذي فقدته فرنسا في شمال افريقيا، والمبادرة الأخيرة في ذلك، اجتماع 5+5 لرؤساء الدول المغاربية والاوروبية في تونس في مطلع الشهر المقبل. لذلك، فالمطلوب من هؤلاء المحرضين على ادخال فرنسا في اصطفاف الصفوف وراء الولايات المتحدة مستخدمين اوراق العنصرية ونقاط الضعف والخوف لدى جزء من المجتمع، ان يفهموا مخاطر هذه اللعبة وهذا النوع من الرهانات. إذ لم يسبق ان واجه العالم احتلالا مثل ما يواجه اليوم، فالحرب ايها الاغبياء مختلفة بطبيعتها واهدافها واساليبها، حرب عالمية بأشكال جديدة وادوات خارجة عن المألوف. تكفي سيارة مفخخة لاستدراج دولة اليها. كل شيء مباح، وكل الضربات مسموح بها. لذلك لن يكون اي هدف عسكري، اقتصادي ومدني بمنأى عنها. لا بد «للمنظرين» عبر شاشات التلفزيون ومدعي الاختصاص بالارهاب والاسلام ان يعلموا كل ما يقولون هراء. الآن في هذه الحرب ليست هنالك سوابق تمكن العودة إليها والافادة منها لمنع الآتي الاعظم، لان الطرف الذي يضرب الضربة الأولى يجددها خلال ايام، كما حصل في تركيا، وهو طرف بلا عنوان، وسيبقى. ذلك، على رغم «البروباغاندا» التي سبق ورافقت اعتقال من أطلق عليهم قادة «القاعدة» واليد اليمنى لبن لادن والذين نقلوا من باكستان لواشنطن اوغوانتنامو.

يجب الاقرار بأن الديمقراطية الفعلية في تركيا اهينت باسم الديمقراطية المحتملة في العراق، مورست ضغوط لا سابق لها على انقرة كي ترضح للمشيئة الاميركية، التي ضربت عرض الحائط المقاومة الديمقراطية الضاربة لهذه الطاعة. تبين بوضوح، وفي هذا البلد الركيزة في حلف شمال الاطلسي، ان التجاوب مع الاملاء الاميركي يكشف عورات السلطة ويستولد تعبئة شعبية ضدها. هذا ما لم يفهمه بول وولفوفيتز عندما لام ذئاب الجيش التركي لأنهم خضعوا للبرلمان، وكان ما كان. لذلك على الحكم في فرنسا ان يدرس جميع خطواته بتؤدة في هذه الحقبة الدقيقة قبل التورط في السير وراء الذين يريدون وضعه في دائرة الاستهدافات. فقبل القيام بأية مبادرة يمكن ان تفسر على أنها تصعيد، يجب على الحكومة الفرنسية أو خبراء الارهاب لديها ان يدرسوا بتعقل لماذا ادانت «الجماعة الاسلامية» في مصر «القاعدة» عندما اعلنت مسئوليتها عن تفجيرات الرياض. وكيف ان تنظيمات اصولية متعددة المشارب والمناهج استهجنت تفجيرات تركيا الاخيرة. وكيف ان اجتماعا ضم الشيخ يوسف القرضاوي وعباس مدني، ومسئول حركة حماس خالد مشعل والشيخ حسن الترابي لم تصدر عنه دعوات متطرفة؟

ضيق الرقعة واتساع العدد

ذهب جورج بوش إلى أصعب الحروب، لانه ليس هنالك موعد محتمل لانهائها، ولا حجم الاضرار التي ستنجم عنها ليس بالنسبة إلى الولايات المتحدة فحسب، بل العالم بأكمله. كذلك الحال بالنسبة إلى طوني بلير. لذلك لا يجوز ان تغرق فرنسا في هذه الوحول عبر فتح ملفات يصعب من بعد اقفالها. فلعبة الاسلام بجميع جوانبه واستفزاز مشاعر المنتمين اليه مع ما يترافق معه من تحريض على جالياته هي قنابل موقوته، من الاصلح تعطيلها. ففرنسا ليست معرضة وليست مستهدفة، خلافا لما يروجه هذا البعض الذي يريد ادخالها في فلك اميركا وفي نظرية بوش عن «العالم الاكثر أمنا». وبالتالي ليست هنالك اسباب موجبة لاختراع الأجواء الضاغطة عليها ودفعها لارتكاب الاخطاء. اضافة إلى ذلك، يشار إلى ان الرقعة السياسية لممارسة الارهاب - بغض النظر عن جميع المظاهر - بدأت تضيق ولو انها، ديموغرافيا، تتسع. ولا يفيد في شيء تكرار بوش في لندن الخلط بين مقاومة مشروعة ضلت طريقها، في اشارة إلى الفلسطينيين، وبين عمل اجرامي بكل المقاييس، في اشارة إى تفجيرات اسطنبول.

ان الارهاب الحاصل اليوم والحرب بلا ضوابط هي اكثر تعقيدا من ان يحيط بها العقل التبسيطي للذين يحاولون التأثير في السياسة الفرنسية والضغوط على المجتمع في هذا البلد. وليس اكثر تعقيدا لجهة اسبابه التي تستدعي معالجات غير أمنية فحسب، بل اكثر تعقيدا لانه في لحظة اختلاط بين المحلي والاممي والدين، حال تستوجب التعمق والتعقل. فليس كل عمل هو من اعمال بن لادن وتنظيم «القاعدة» فنحن هنا امام «ماركة مسجلة»، بضاعة تروجها جهات عدة تعكس سمة هذه الحرب المختلفة، التي كل شيء فيها يوحي باننا لانزال في البدايات، الأمر الذي على فرنسا ان تدركه وتعمل على اساسه.

على اية حال، بدا وزير داخليتها نيكولا ساركوزي واعيا لما يجري وخطورته. وهو ما حاول ان يشرحه خلال حلقة نقاش تلفزيونية عشية الخميس الماضي، بغض النظر عن بعض مواقفه المتشددة التي تفرضها مهنته باعتباره رجل دولة