بعد أسبوع تنتهي السنة الميلادية التي ابتدأت على وقع العدوان الأميركي - الإسرائيلي على قطاع غزة. فالسنة بدأت شهرها الأول في حال من الاضطراب العربي وانقسام دول المحاور وتضارب تعاملها مع تداعيات كارثة غزة التي أنتجت مجموعة خطابات سياسية عدمية أخذت تطالب بإلغاء جامعة الدول العربية والتخلي عن مبادرة السلام التي توافق عليها القادة في قمة بيروت وإعادة هيكلة منظمة التحرير الفلسطينية وإخراجها من مشهد الصراع العربي - الإسرائيلي.
مطلع السنة بدأ سيئا إذ كشف عن ضعف عام وعدم قدرة المحاور على التوافق على حد أدنى لمواجهة استحقاقات خلّفها العدوان على غزة. والضعف لم يقتصر على جبهة عربية واحدة وإنما شمل كل الجبهات حتى تلك الدول التي تداعت إلى عقد قمة طارئة في الدوحة. فالقمة المذكورة كانت فاشلة في مختلف المعايير لأنها لم تنجح في صوغ آليات تحدد الأطر الميدانية والعملية للخروج من المأزق. وبسبب تلك الثغرة لم تستطع قمة الدوحة تشكيل ذاك البديل الموضوعي القادر على نقل الدول العربية إلى طور متقدم ما أدى إلى انفراط عقدها وتحولها إلى وعاء ايديولوجي لا يعوّل عليه سوى الاستماع إلى بلاغات بيانية لا تقدم إلا الشعارات والوعود التي اعتاد الشعب الفلسطيني على سماعها خلال العقود الماضية.
فشل قمة الدوحة في تأكيد وجودها السياسي أعطى فرصة لعودة دور ما يسمى بدول الاعتدال العربي على النمو وأخذ المبادرة مجددا كما ظهر خلال جلسات قمة الكويت الاقتصادية. ففي تلك القمة نجحت الدول العربية في التقدم لتعبئة الفراغ الذي نجم عن عدوان غزة. وتصادف الأمر مع استلام باراك أوباما مقاليد الرئاسة الأميركية في أجواء دولية مرحبة بذلك التغيير الذي طرد «تيار المحافظين الجدد» من البيت الأبيض.
بدء أوباما في ممارسة صلاحياته الرئاسية ترافق مع موجة من التفاؤل العربي الذي راهن على احتمال حصول متغير معقول في السياسة الأميركية انطلاقا من التركيز على القضية الأم التي تفرعت منها أو بسببها مختلف أزمات «الشرق الأوسط». وجاءت المراهنة العربية لتتجانس مع توجهات خطاب نقدي ومتسامح واعتذاري تمثل في تلك التصريحات والمداخلات الأميركية التي أعطت فسحة للأمل بحصول نوع من التعديل المحدود بالتعامل مع المسألة الفلسطينية والانفتاح على قضية عادلة لم يعد بالإمكان تجاهل مركزيتها وتأثيرها المعنوي على مختلف الملفات.
المراهنة على حقبة أوباما ليست خطأ لأنها كانت محاولة للتقارب في ضوء تجارب فاشلة سقطت فيها مختلف الإدارات الأميركية بسبب تأييدها المطلق لتل أبيب وانحيازها الكلي للسياسات الإسرائيلية. وتعززت تلك المراهنة المشروطة بمجموعة خطوات قرر أوباما اتخاذها حين ربط عودة المفاوضات بوقف حكومة «إسرائيل» للاستيطان تحت مظلة سلمية تدعو للتسوية العادلة والانفتاح على الإسلام والاعتذار من العالم الإسلامي.
خطاب أوباما في جامعة القاهرة سجل مجموعة نقاط إيجابية لمصلحة التقارب العربي - الأميركي من خلال التركيز على الملف الفلسطيني وتسامح المسلمين مقابل تراجع واشنطن عن الاستمرار في مشروع التقويض والفوضى والاقتتال الأهلي الذي استخدمه جورج بوش خلال عهده. وأعقب الخطاب مجموعة تحركات تمثلت في استقبال أوباما الوفود العربية ومحمود عباس في البيت الأبيض وإرساله مبعوثه الخاص للمباشرة في وضع تصور عملي يخرج المسألة من إطار التجميد والتهميش إلى نقطة الدائرة.
موجة التفاؤل لم تكن دقيقة في كل جوانبها بسبب انقضاض اللوبيات (مؤسسات التصنيع الحربي) المتحالفة مع حكومة تل أبيب على خطة أوباما التي ربطت التفاوض بوقف الاستيطان. ونجح الهجوم الإسرائيلي المعاكس في إرباك أوباما وتعطيل خطته ما دفعه إلى البحث عن بدائل أخرى تحتل الأولوية في برنامجه الرئاسي.
عند هذه النقطة بدأ أوباما يتراجع عن التركيز على الموضوع الفلسطيني وأخذ يوجه اهتمامه على الملفين الأفغاني (تعزيز الاحتلال بالمزيد من القوات الإضافية بذريعة ملاحقة الإرهاب في موطنه الأصلي) والإيراني (التشدد في متابعة المشروع النووي بذريعة أنه يشكل الخطر الأول على المنطقة). وتصادف المتغير الأميركي مع اهتزازات سياسية وأمنية شهدتها باكستان النووية المجاورة لأفغانستان بعد نمو قوة «طالبان» في وزيرستان، وإيران بعد تدوير نتائج الانتخابات الرئاسية وما أعقبها من عواصف شعبية أنتجت معادلة غير مستقرة داخل الجمهورية الإسلامية.
ملفات أفغانستان وباكستان وإيران أعطت ذريعة لتهرب أوباما من الموضوع الفلسطيني وتجميده وتراجعه عن سياسة الربط بين عودة المفاوضات ووقف الاستيطان ما أعطى فرصة لحكومة بنيامين نتنياهو للتقدم باتجاه توسيع المستوطنات وزيادة عدد الوحدات السكنية في القدس واشتراط الاعتراف بيهودية الدولة قبل الدخول في تسوية.
النصف الثاني من العام 2009 انكشف على تراجعات أميركية بشأن التعامل مع المسألة الفلسطينية مقابل التورط الهادئ في سياسة بوش وأسلوب تعامله مع الملف الأفغاني وتعاطيه مع المشروع النووي الإيراني. فمن جانب أفغانستان قرر إرسال 30 ألف جندي إضافي بموازنة 30 مليار دولار للقضاء على بؤر الإرهاب، ومن جانب إيران وجه ذاك التحذير الإعلامي بشأن ملفها النووي تنتهي مدته رسميا بعد أسبوع.
العودة إلى المربع واحد يشكل عنوان نهاية السنة الميلادية إذ شهدت الفترة الأخيرة مرحلة انتفاخ الأزمات بعد أن عمّ التفاؤل في مطلعها باحتمال احتواء تلك الملفات الساخنة ومنعها من التمدد والانتقال. العراق مثلا لم يستقر ولاتزال مدنه وشوارعه تشهد تلك الضربات الدموية يوميا. الصومال يتقلب بين الاقتتال الداخلي وتوسع القرصنة على مداخل البحر الأحمر. باكستان دخلت في أزمة دستورية قد تعطل الدولة وتمنعها من القيام بمهماتها الأمنية. أفغانستان من أبرز الدول الفاشلة حتى بعد تجديد الانتخابات للرئيس حامد قرضاي المشكوك أصلا في صحتها. وإيران دخلت في طور من الأزمات المتدحرجة بعد تمديد فترة الرئيس محمود أحمدي نجاد في انتخابات تشوبها الصدقية ويحتمل أن تؤسس «جمهورية ثانية» في حال انزلقت السلطة نحو مواجهات متقطعة مع شارع اشتهر بالحيوية والاستعداد للتضحية.
علامات فاشلة كثيرة يمكن رسمها في خاتمة السنة الميلادية الجارية أبرزها تواضع برنامج التغيير عند أوباما وتراجعه عن الكثير من وعوده، وعدم نجاح مؤتمر المناخ في كوبنهاغن في التوصل إلى قرارات حاسمة تنقذ الأرض من الاحتباس الحراري، واضطراب الاستقرار في اليمن واحتمال انجراره إلى نماذج «العرقنة» أو «الصوملة» أو «الأفغنة»، ودخول إيران في عزلة إقليمية أنتجتها سياسة سلطة بالغت في تقدير قوتها وموقعها ودورها.
بعد أسبوع تنتهي السنة الميلادية الجارية تحت عناوين كثيرة يطغى عليها الفشل في حل معضلة واحدة. والمشكلة ليست في النهاية وإنما في الاحتمالات التي تبشر بها السنة المقبلة. فالعام 2009 بدأ في ارتكاب مجازر ضد المدنيين في غزة كما أشار المحقق الدولي غولدستون في تقريره فهل يبدأ العام 2010 بخطوة مشابهة في مكان آخر أم يكون فاتحة خير يجدد التفاؤل والأمل بالتغيير؟ الاحتمالات المتوقعة تؤشر إلى تكرار الفشل.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2666 - الأربعاء 23 ديسمبر 2009م الموافق 06 محرم 1431هـ