أن تتجاوز طهران اختبار «فيينا» النووي بسلام لا شك نجاح يكتب لها في عالم الدبلوماسية المعقد والمتشابك الخيوط والخطوط والاتجاهات.
فما صدر من قرار عن مجلس حكام «فيينا» النووي بخصوص أنشطة إيران النووية، مهما حمل من ادانة لفعاليات إيرانية سابقة أو تحذيرات مستقبلية أو إجراءات صارمة تنتظرها، لا يمكن ان يسجل في عالم الدبلوماسية المتحرك والسيال الا إنجازا يكتب لصالح من اداروا «اللعبة» ايا تكن الأهداف البعيدة للأطراف المتصارعة. فهو نجاح لإيران بالدرجة الأولى لانها فوتت على الاميركيين لعبة تكرار سيناريو العراق معها مبكرا من خلال سحب الذرائع.
ونجاح لأوروبا «القديمة» الفرنسية - الألمانية لانها تمكنت من فرض نفسها شريكا استراتيجيا في اي نزاع دولي يمكن ان ينشب مستقبلا حول إيران بخصوص ملفها النووي أو غيره خلافا للحال العراقية التي استفردت بها واشنطن.
ونجاح نسبي ولو محدودا لبقايا «هيبة» الأمم المتحدة ومنظماتها التابعة لها أو العاملة تحت سقفها وتحديدا هنا الوكالة الدولية للطاقة الذرية على رغم كل الاتهامات الموجهة إليها، لانها استطاعت أن تساهم ولو بالكاد في وقف اندفاع الاميركيين «الامبراطورية» تجاه ملفات العالم المختلفة.
لكن هذا النجاح لا يمكن ان يكون نهاية اللعبة الدبلوماسية بين الأطراف المعنية من جهة ناهيك عن ان يكون نهاية المعركة المفتوحة بين واشنطن وطهران بشأن هذا الملف المتشابك الأبعاد والخطير في كل الاحوال.
فالملف النووي الإيراني يتعلق بقضية استراتيجية خطيرة اهم بكثير من خطورة أو استراتيجية الموضوع النووي نفسه سواء ما يتعلق ببعده السلمي الذي تُقْسِمُ طهران الأيمان على انها لا تنوي خلافه أو ببعده العسكري الذي تصر واشنطن ومعها تل أبيب أو ربما بدفع مضاعف منها على ان طهران انما تسعى اليه من دون هوادة!
ثمة من يجزم هنا بأن الصراع في الاساس هو صراع ارادات متناقضة أكثر مما هو صراع عن طبيعة الأنشطة النووية الإيرانية.
بمعنى آخر فان واشنطن وتل ابيب لا يمكن لهما ان يتحملا ولا بأي شكل من الاشكال نجاح طهران الثورة الاسلامية المتحالفة مع عرب «الصمود والتصدي» وان لم يكن قد بقي منهم سوى سورية ولبنان و«شظايا» فلسطينية متناثرة، في الحصول على تكنولوجيا الطاقة النووية أصلا سواء استعملت للسلم أو لغيره. ذلك ان مجرد امتلاك هذه التكنولوجيا من قبل دولة قرارها مستقل عن الارادة «العالمية» الاميركية أو في أبسط معانيه، غير منسجم مع ارادة واشنطن ورؤيتها العالمية يعني بالضرورة «خطرا داهما» على السلم العالمي والاقليمي الذي تسعى اليه واشنطن سواء بالتجاذب الكامل مع أوروبا وروسيا واليابان أو حتى بالتنافر مع هذه الأقطاب الطامحة إلى جانب الصين المتحفزة لمثل هذا الدور.
وهنا أيضا ثمة من يذكر ويتذكر كيف ان الولايات المتحدة هذه نفسها، كانت يوما من المتحمسين لمشروعات الطاقة النووية الإيرانية، ولكن متى؟ عندما كان شاه إيران هو الذي يحكم طهران، الشاه الذي كان قراره يتخذ في عواصم الغرب وفي مقدمتها واشنطن وليس في عاصمة بلاده طهران.
ويذكر ويتذكر أيضا أن بدايات المشروع النووي الباكستاني عندما كان فرنسيا كيف انه أدى إلى الاطاحة بنظام ذو الفقار علي بوتو واعدامه على يد عسكريين متعاطفين مع واشنطن أو ميالين إليها، وكيف انه تم قبوله فيما بعد وان على مضض في البداية وقبول فيما بعد عندما بدأ يدور في الفلك الاميركي لردع السوفيات المتحالفين مع الهند آنذاك ومن ثم للاحتواء المزدوج لكل من الهند وباكستان فيما بعد.
من هنا يعتقد اصحاب هذا الرأي ان مجرد نجاح طهران في وقف الاندفاع الاميركي عند محطة «فيينا» ولو مؤقتا يشكل انجازا لا بأس به بل نجاحا يعتد به.
لكن ذلك لا يعني أبدا كما يفكر أو يظن بعض التكنوقراط الإيرانيين الذين ساهموا بنجاح في تجاوز هذا المنعطف الخطير بأن الملف النووي «بات وراء ظهورنا» كما يقولون!!
نعم واشنطن كانت تريد لمحطة «فيينا» ان تتحول إلى «حلبة مصارعة» ينجح فيها الاميركيون في الفوز على الإيرانيين بالضربة القاضية!
وذلك اما عبر دفع إيران لرفض توقيع البروتوكول الاضافي الذي اشهروه في وجههم كسيف سلط عليهم أو من خلال خلق اجماع دولي مضاد لهم يدفع في الحالين بالملف الإيراني إلى مجلس الأمن الدولي، وهو ما لم يتحقق الآن. والسبب في ذلك على ما يبدو انتباه الإيرانيين المبكر إلى ان المطلوب هو تحويل اللعبة إلى سباق ما راثون يكون فيه الحكم مختلفا في كل مرحلة بحسب التوازنات الدولية المتحركة والسيالة بالاضافة إلى النفس الطويل الذي تفتقر اليه ثقافة «الكاوبوي» الاميركية كما يقولون فيما يتميز به الإيرانيون كسمة أساسية من سمات شخصيتهم. في حين ان الملاكمة وتحديدا الآن كانت ستعني ان الحكم اميركيا وان الفوز اميركيا بامتياز.
لهذه الاسباب مجتمعة قبلت طهران بما يسميه الكثيرون «تنازلات» أو «تسويات» «مكللة» بالرضى والنجاحات الجماعية بحيث يعتبر كل طرف انه هو الفائز الأكبر بمن فيهم الاميركيون إلى حين تغير الحال والاحوال
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 449 - الجمعة 28 نوفمبر 2003م الموافق 03 شوال 1424هـ